تغيير الخطاب المجتمعي حول التنمية

الخطاب المجتمعي حول التنمية لا يكاد يكف عن التدفق من الكتّاب والمثقفين ومن مختلف فئات المجتمع النخبوي وأصحاب الاختصاص أو غيرهم من عموم الجمهور.. كل فرد لديه وجهة نظر يراها الأصوب في معالجة خلل موقع من مواقع التنمية أو ما يتصل به من مهام وقرارات أو مسؤولين.
لكن من الواضح أن اتجاه الخطاب المجتمعي غارق في (يجب) و(المفروض) وأخواتهما.. إما على نحو طروحات نظرية لأفكار مثالية في الغالب أو على هيئة نصائح ومواعظ، كما أن بعض هذا الخطاب مشوب بالخلط بين الموضوعية وبين الشخصنة، بالتصريح حينا وبالتلميح حينا آخر لتحميل المسؤول جملة وتفصيلا تبعات القصور، ربما لعدم الإلمام بمهام الجهة وحدود صلاحيات مسؤولها.
إن هذا يستدعي بالضرورة تغيير الخطاب المجتمعي حول التنمية ومتطلباتها من خلال شحن الفضاء الاجتماعي بمحتوى التنمية والمعنى الفعلي لها بالتركيز على تخليص المجتمع من هيمنة المنظور الاتكالي الانتهازي عليه في موقفه من التنمية ودفعه إلى الإحساس بالمسؤولية تجاهها والمشاركة في رفع كفاءة استخدام الموارد الاقتصادية التي في مقدمتها مجموعة الذوات الوطنية، والمتعارف عليها بالموارد البشرية. وهذا يتطلب السير في اتجاهين متلازمين:
الأول: يتعلق بضرورة مواجهة صورة الذات الاجتماعية، فمن المعلوم أن كل مجتمع يحب أن يرى نفسه في الصورة التي يرضاها.. وقد ينبذ أو يتجاهل أو حتى يهاجم أي تشخيص لملامح صورة لا يقربها، يقال له إنها تشبه صورته أو بعضها.. سواء قال بذلك أحد من خارج المجتمع أو تجرأ أحد أبنائه على الجهر بها والمصارحة.
إننا كثيرا ما نلجأ إلى المديح العالي لذاتنا الاجتماعية، وغالبا كرد فعل على ما قد يمس هذه الذات، خصوصا في الحالات التي تبرز فيها ظواهر اجتماعية سلبية عنيفة أو شاذة أو غير محمودة، فننبري رافعين صوتنا بمعزوفة المحافظة والأصالة والشهامة والسمت والستر والتكافل وحب الخير وما إلى ذلك من صفات هي في حقيقتها قواسم مشتركة بين الأمم، إلا أننا نأخذها على أنها امتيازنا الخاص، رغم أن الواقع لا ينفك يصدمنا بين الحين والآخر.. بما يتناقض تماما معها مما هو مؤسف موجع!
لا يحدث هذا لسوء فينا وإنما لأننا ما زلنا غاطسين في الحنين لصورة نمطية عتيقة عن الحالة الريفية البلدانية، العفوية البسيطة التي تسكننا ونتمترس خلفها لا شعوريا فيعمد البعض منا إلى اختزال هذه الصورة بنفسه، وإحالة اللوم بالتقصير على سواه، مسؤولا كان أو جهة.. مراوغاً ذاته في المصداقية الخاصة به.. حيث لا انضباط في العمل ولا كفاءة في الأداء ولا حرص على الإنتاجية.. فكيف برفعها؟!
إن نظرة إلى الشوارع في مدننا أوقات الدوام كفيلة بإقناعنا أن قدراً من هؤلاء الذين تكتظ بهم الشوارع هم موظفون يسعون في قضاء شؤون خاصة.. والتبرير جاهز بعدم وجود مواصلات عامة.. أو.. بعدم وجود عمل حقيقي يستدعي فعلا ضرورة البقاء.. ناهيك عن ظواهر أخرى للتسيب مثل إجازات التمارض والفزعة... إلخ. وفي ذلك كله يلعب "الإسقاط" السمة الغالبة لتعليق التقصير على مشاجب الغير.. وما أصدق مثلنا الشعبي في إشارته إلى السلوك: (كل يرى الناس بعين طبعه!).
إننا حقا في أمس الحاجة إلى مواجهة صورتنا الحالية لنتعرف على مكامن القوة فيها ومكامن التشوهات، فالصورة التي تعشش في خيالنا اليوم ويجرفنا الحنين إليها، لم تعد موجودة على النحو الذي نتخيله فقد حلت مكانها صورة مركبة معقدة متشظية لمجتمع مشحون بما في العالم من تحولات على مستوى السلوك والوعي والعلوم والمعارف، والفعل ورد الفعل.
إن عقلنا الاجتماعي لا ينبغي أن يترك لوهم تصوره لذاته والانحباس داخل هذا التصور بل لابد من تشكيله على أسس علمية واقتصادية، لأن تركه سادراً في هذا التصور الرعوي في زمن عولمي يعمق الفصام في الشخصية الاجتماعية على الصعد كافة ويحول دون تصعيد إيجابيات 40 عاما من التنمية ويرهنها لثقافة التواكل والتراخي والعيش الانتهازي على حساب التنمية وليس صناعتها!
أما المحور الثاني في مسألة تغيير الخطاب المجتمعي فينبغي أن يكون قلبه وقالبه إجرائياً.. وهنا يقتضي أن يكون للبنية النظامية أو الإدارة العليا ـــ على مستوى المؤسسة وعلى مستوى الوطن ـــ صرامتها وحزمها في تسييد الروح العملية والتطبيق الفعلي للرؤية التنموية، حيث يبادر النهج عملياً إلى تقرير المشاريع والبرامج وتنفيذها، إذ من الواضح أننا عالقون بالطرح النظري مستهلكون فيه على مستوى الجهات وعلى مستوى الفعاليات، وقد أسهم ذلك حتى الآن في شل قدرة البنية النظامية على شد الجمهور نحو ثقافة عملية.. لأنه حين تستحوذ الكلمات وشكلانية النشاط والفعاليات.. تتراكم اللامبالاة وعدم الاكتراث ويصبح "الإسقاط" سيد الموقف وصك إبراء الذمة الجاهز.
أما حين تكون البنية النظامية إجرائية بحسم وحزم.. فهذا يرسخ تلقائيا تغييرا جذريا في المزاج المجتمعي ويفتح الشهية للعمل ويؤدي إلى أن يدب الحماس وتسود الروح التنافسية لتصبح نزعة معنوية عالية وبمثابة "كرامة شخصية" تسري من واحد لآخر، تخلق بتكاتفها صورة مجتمعية جديدة مشرفة ناهضة على الولاء العملي للوطن بالإنتاج والإبداع وليس على نعاس الحنين لأمثولات وحكايات قديمة.. إن كنا نحن لسنا أبطالها فمن الحصافة ألا نكون ضحاياها!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي