الكراهية والتطهير العرقي يخيمان على بورما

منذ أكثر من عام تعاني بورما - ماينمار - وحول الكراهية والتطهير العرقي ضد أقليتها المسلمة - خصوصا مسلمي الروهينجا - دون تحرك جاد من قبل المجتمع الدولي لإيقافها، لأن هذا المجتمع الدولي منشغل بملفات أكثر أهمية من وجهة نظره. وقد ظن البعض أن بعض الخطوات التي أقدمت عليها رانجون هذا العام كفيل بإيقاف هذه الظاهرة المخزية. لكن ثبت أخيرا - من خلال عدد من حوادث العنف الطازجة ضد الأرواح والممتلكات - أن القوى الإجرامية الظلامية لا تزال متنفذة وتستطيع التحرك متى شاءت لتخريب أي علاج.
صحيح أن حكومة الجنرال "تن سين" تحركت تحت ضغوط إقليمية ودولية فقامت بالتصدي لخطاب الكراهية، عبر شن عمليات ضد مروجيه وتحذير وسائل الإعلام من مغبة الانجراف نحو ترديد ذلك الخطاب ونشره، وذلك من منطلق الحفاظ على السلم الأهلي والوحدة الوطنية. لكن الصحيح أيضا هو أنه لم يثبت أن رانجون أقدمت حتى الآن على تفعيل تحذيراتها بمعاقبة من تتهمهم بتخريب السلم الأهلي، على الرغم من معرفتها بهم، وعلمها بأنهم يتعقبون كل صحافي أو حقوقي يكتب تقارير لوسائل الإعلام المحلية والعالمية عن حجم معاناة الأقلية المسلمة المستهدفة.
ويزعم بعض المراقبين أن السلطة العسكرية الحاكمة في بورما تتعمد ذلك لأن الملف المذكور وتداعياته يشغل الجماهير ويصرف أنظارها بعيدا عن المطالب الشعبية بإحداث تغييرات على دستور البلاد لعام 2008، علما بأن هناك حملة تواقيع جماهيرية ومظاهرات شعبية انطلقت في البلاد منذ عام 2012 بهدف إلغاء بعض المواد الدستورية التي تمنح العسكر امتيازات أو تضمن مصالحهم أو تحميهم من المساءلة عما اقترفوه من جرائم فساد وإفساد وصفقات تجارية مشبوهة وقتل وتعذيب.
البعض الآخر من المراقبين يتبنى أيضا نظرية تعمد العسكر إلهاء الجماهير عبر إشغالها بوحول الطائفية والكراهية والعنف، ولكن لسبب آخر هو التخلص مما يسببه بعض البورميين من صداع واحتجاجات جراء تنامي الدور الصيني في الهيمنة على مشاريع البلاد الكبرى كمشاريع السدود والمناجم وخطوط الغاز التي يقال إن شبهات فساد تحيط بها. والمعروف في هذا السياق أن الجنرال "تن سين" اضطر في عام 2011 إلى تأجيل مشروع أرسي على الصينيين لبناء سد في منطقة "كاتشين". كما أن قوات الأمن تصدت بغاز الكبريت الأبيض لمظاهرة سلمية للقرويين والكهنة البوذيين في عام 2012 كانت تحتج على منح مشروع لتطوير مناجم النحاس للصينيين. وتكرر الأمر نفسه وللأسباب نفسها حول منح الصينيين مشروعا عملاقا لمد خط للغاز من ولاية "راكين"، وهو خط يتوقع له أنْ يكون حيويا لجهة مد الصين بالطاقة في حال حدوث ما يعوق حصولها على إمدادات الطاقة عبر مضيق ملقا وبحر الصين الجنوبي.
وهناك من يقول إن سكوت الحكومة عما يرتكب في المجتمع البورمي من أعمال تطهير عرقي وجرائم عنف وتحريض على الكراهية إنما هو وسيلة لتشتيت الجماهير منعا لتوحدهم خلال الاستحقاقات الانتخابية المقبلة في عام 2015، التي قد تفوز بها زعيمة المعارضة السيدة أونغ سان سو كي، مما يعني حكما وصولها إلى زعامة البلاد. وهذا بطبيعة الحال أمر لم يستسغه العسكر في الماضي ووقفوا في وجهه، ولن يستسيغوه في المستقبل.
وهناك فريق رابع من المراقبين، وبينهم دبلوماسيون أجانب، يرى فيما يجري ضريبة متوقعة للديمقراطية، بمعنى أن الخطوات الإصلاحية التي أقدم عليها عسكر بورما، والفترة الانتقالية التي تعيشها البلاد نحو الديمقراطية، خلقت أجواء من الحريات غير المسبوقة على مدى عقود من الزمن، الأمر الذي تسبب في تنامي تطلعات الأقلية المسلمة التي اصطدمت بدورها بأجندات القوى القومية البوذية المتطرفة.
والرأي الأخير في اعتقادي ليس صائبا بالكامل لأن أعمال العنف ضد الأقلية المسلمة بدأت قبل وقت طويل من انطلاق العملية الإصلاحية، وإنْ لم تكن بالحجم والطريقة التي شهدناها منذ أكثر من عام، بدليل تكررها في الأعوام 1978 و1991. وفي هذا السياق لا بد من القول إن مسؤولية العنف في المجتمع البورمي الذي كان معروفا منذ الأزل بالسلام والتوافق والتعاون يتحمله تاريخيا جنرالات الجيش، ليس منذ انقلابهم على نتائج الانتخابات الديمقراطية التي فازت بها السيدة أونغ سان سو كي في أوائل الثمانينيات، وإنما منذ أنْ أطاح وزير الدفاع الأسبق الجنرال "ني وين" بأول رئيس مدني منتخب وهو "أونو" في عام 1962 فهذا الجنرال الأخرق ورفاقه من ذوي السترات الكاكية والرتب النحاسية هم الذين دمروا المجتمع البورمي وغرسوا فيه بذور العنف والكراهية التي نمت كالنبت الشيطاني مع مرور الوقت، بل هم أيضا من أسس لثقافة جديدة ذات توجه قومي بوذي صرف لتخلف ثقافة التعددية والديمقراطية العلمانية التي غرس بذورها وسقاها المستعمر البريطاني على نحو ما فعله في الهند. والحاكم البريطاني في الأخيرة، كما هو معروف، كان يدير شؤون بورما لسنوات طويلة، بل إن الناشط والباحث البورمي المسلم المقيم في لندن "كياو وين" يزعم ما هو أبعد من ذلك، فيقول في مقال نشر له في تموز (يوليو) الماضي أن عقيدة تخويف البورميين البوذيين من شركائهم في الوطن من الأقلية المسلمة، ودق الأسافين بين الطرفين هي عقيدة قديمة سابقة لوصول العسكر إلى الحكم في عام 1962 ويدلل على زعمه هذا بأن الزعيم المدني "أونو" لم يكتسح الانتخابات الرئاسية في الخمسينيات إلا بفضل برنامجه الانتخابي القائم على إعلان بورما دولة بوذية خالصة. غير أنّ الثابت هو أن "أونو" ظل وفيا للنموذج التعددي العلماني في إدارة بلاده طوال فترة قيادته القصيرة لبلاده، ولم تدخل بورما نفق الصراع الديني إلا في ظل العسكر الذين اعتمدوا سياسة "فرق تسد" المعروفة من أجل البقاء في السلطة واحتكار موارد البلاد، وقاموا، ضمن هذه السياسة، بتأليب الأكثرية البوذية على الأقلية المسلمة، وإلصاق صفة الدخلاء والمتآمرين على الفريق الثاني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي