رحل مغني الربابة.. منتصب القامة

إنه الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم. كان ثالث اثنين هما توفيق زياد ومحمود درويش.. الأول اغتاله الصهاينة والثاني مات في أمريكا بعملية فاشلة في القلب، أما هو فقد مات بعد صراع ثلاث سنوات مع سرطان الكبد.
زف هؤلاء الثلاثة إلى فضاء الثقافة العربية الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني بعد هزيمة 67 في كتابه "أدب المقاومة"، ثم جاء بعده كتاب "ديوان الوطن المحتل" ليوسف الخطيب فاكتشفهم العرب إلى جانب أسماء أخرى مثل راشد حسين وسالم جبران وفدوى طوقان وغيرهم، لكن بقي هؤلاء الثلاثة أيقونات شامخة تناهبت الجماهير العربية أشعارهم وأحاطتهم بحفاوة نادرة دفعت شاعرا عربيا كبيرا هو نزار قباني إلى أن يكتب فيهم قصيدته "إلى شعراء الأرض المحتلة"، كما دفعت النقاد والكتاب العرب إلى الكتابة بحماس عنهم من منطلق الإشادة بهم وجلال التقدير لهم منزهينهم عن النقد، وقد استاء الشعراء من هذا "الدلال" الذي عوملوا به ما حدا بهم إلى الشكوى: "ارحمونا من عطفكم!".
كان سميح قد كتب وهو بالكاد يبلغ الثلاثين من عمره ستة دواوين مليئة بالتحدي والمقاومة، بل إن مصطلح "أدب المقاومة" استمده غسان كنفاني من قصيدة لسميح بعنوان: "خطاب من سوق البطالة" يكرر فيها القول: "يا عدو الشمس إني سأقاتل .. وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم".
وكان يحاور هذه الصدامية المفرطة في تحديها للمحتل الصهيوني إحساس فظيع بالتردي والانحطاط الذي وصلت إليه الأمة العربية وعجزها عن الإفلات من الحنين إلى الماضي والتغني بأمجاده، فاستفزه هذا الانحباس الحضاري وعبر عنه مبكراً في قصيدة له في ديوانه "دخان البراكين" بعنوان "ثورة مغني الربابة".. استهلها بقوله:
"غنيت مرتجلاً على هذي الربابة ألف عام
مذ أسرجت فرسي قريش
وقال قائدها الهمام:
"اليوم يومكم، فقوموا واتعوني
أيها العرب الكرام"
ثم يمضي في القصيدة، متمثلا دور الحكواتي المغني الذي كان يجتر على ربابته أمجادا غابرة.. فيقول:
"عددت أجيالا على هذي الربابة
كررت أمجاد الرسول وأمجاد الصحابة
كررت عقبة ألف مرة
كررت طارق ألف مرة
ووضعت من عندي الكثير
كذبت.. في أسف وحسرة"
وفي النهاية يختتمها مستسرخا الأمة:
"يا أمتي.. قومي امنحي هذي الربابة
غير البراعة في الخطابة
لحناً جديداً
وامنحي الأجيال أمجاداً جديدة"
من الواضح أن سميحا الشاعر الشاب آنذاك -، وهو يخبط في تيه الانكسارات والهزائم العربية- قد طفح به الكيل من هذه الهرولة المزرية والمستمرة لأمجاد الماضي لردم هوة هذا "الجرح النرجسي" النازف كرامة ووجودا، لهذا امتلأت دواوينه وأعماله التي جاوزت 70 عملا غالبيتها من الشعر، امتلأت بالصرامة المفرطة في التحدي من "يا عدو الشمس إني سأقاتل .. وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم" وحتى "كل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم .. نحن القضاء المبرم"، وكما امتلأت بذات الوقت بأهازيج تتغنى بالسلام والأمل لكنك لن تجد أبدا في هذا الرجل طأطأة من أي نوع ولا انحناءة من أي لون .. كأنما أمة في شخصه اجتمعت -على حد تعبير الشاعر اللبناني شوقي بريع عن كمال جنبلاط- فسميح كان فعلا رجلا مشحونا بأمة من خلال زجه بالصهاينة إلى المواجهة عبر نفس كلماته الطويل وصداميتها مذكرا إياهم بلعنة شذوذ وجودهم على أرض فلسطين، وتنافرهم مع كل تفاصيل كينونتها وأنهم متورطون، كما يقول في قصيدة تقدموا "بشهوة القتل الذي يقتلهم" شاهراً في وجوههم شموخ روح مصرة على الرسوخ والبقاء بكلمات نشيده الملحمي الصاعد من الأفواه العربية وهي ترددها مع الفنان مارسيل خليفة:
"منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي .. وأنا أمشي"
هذان التحدي والأمل الأزليان عند سميح هما ما يفت في جينات الصهاينة وليس في عضدهم فحسب .. خصوصا أن مدى الحفاوة بالحياة والأمل عند سميح يتعاظم إلى حد مواجهة الموت نفسه بأنفة وكبرياء فهو يخاطبه:
"أنا لا أحبك يا موت .. لكنني لا أخافك
وأعلم أن سريرك جسمي وروحي لحافك
وأعلم أني تضيق علي ضفافك
أنا لا أحبك .. يا موت .. لكنني لا أخافك"
بل هو فوق عدم خوفه من الموت، يرسم له مشهداً فكهاً عند الرحيل ليؤكد أن بوصلة روحه لا تتجه إلا إلى الحياة.. يقول:
"حياتي فضاء وما من حدود، وروحي يمامة
وعمري جناحان لا يذكران الرحيل ولا ينسيان الإقامة
ويوم تغادر روحي لشيء يسمونه الموت
آمل ألا تغادر وجهي ابتسامة!!"
هذه الاحتفالية الطافحة بالأمل وبالحياة عند سميح تضعه في ملكوت واحد مع أنداد له من الشعراء مثل: المغربي عبد اللطيف اللعبي "مجنون الأمل" والتشيلي بابلو نيرودا الممتن للحياة في "أعترف أنني قد عشت" والتركي ناظم حكمت بشهادته "الحياة جميلة يا صاح" والألماني برتولد بريخت في "وصية إلى الأجيال القادمة". لقد ظل سميح يناضل بعناد الثور وهو "برجه"، لكي يرد إلى زمنه العربي رشده في صمود صلب صلد عبر السياسة والشعر والكتابة والفعاليات ممتشقاً جسارته في وجه المحتل وشعاره إما المقاومة العنيفة كما في "دمي على كفي" وهو عنوان أحد دواوينه، أو العمل من أجل الحرية وغد أفضل كما في "طائر الرعد" ذاك الذي يرى الهنود الحمر في مقدمة بشارة الربيع .. وهو أيضاً عنوان ديوان آخر من دواوينه.
وكل عناوين دواوين وقصائد سميح ما هي إلا نضد ملحمي لإيقاعات قلب شاعر ضبط نبض قلبه بنبض كفاح شعبه ونوازل أمته حتى خلعوا عليه ألقاباً فأسماه البعض "الكمان الفلسطيني"، وأسماه بعض بـ "متنبي فلسطين" وأسماه آخرون بـ "هوميروس الصحراء" وغيرها.. وكانت كلها قبسا فيه لكنها جميعها ضاقت عليه، كما ضاق عليه معها الموت الذي صارحه "وأعلم أني تضيق علي ضفافك" فما من متسع لهذا الشاعر الفارس النبيل سوى الخلود.. فقد رجل منتصب القامة مرفوع الهامة.. ومات كالأشجار واقفا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي