قطاع الاستشارات .. يبحث عن هوية
سوق العمل الاستشارية في السعودية خاصة ودول الخليج العربي عامة من أكبر الأسواق لكون هذه الدول تملك الوفرة المالية والرغبة في تطوير جميع القطاعات وفق رؤية استراتيجية حديثة ما يتطلب الاستعانة ببيوت الخبرة العالمية. ولقد بدأت بعض هذه الدول في منتصف الستينيات بداية صحيحة حين أنشأت مؤسسات استشارية شبه حكومية كمركز الأبحاث والتنمية الصناعية الذي تحول إلى الدار السعودية للخدمات الاستشارية وهذا الكيان الذي كان يدار بعقليات وطنية متطورة تلقت تعليمها في أرقى الجامعات العالمية تخلص من الروتين واستعان بخبراء ومؤسسات عالمية، ولكن القيادة كانت للمواطنين ما جعل الدراسات في تلك المرحلة تجمع بين الخبرة الدولية والمعرفة المحلية بالظروف المحيطة بجميع الجوانب التي تؤثر في وضع الخطط والاستراتيجيات والأهم من ذلك إمكانية تنفيذها. وانتهت تلك الحقبة، ونقل أصحاب هذا الفكر المستنير إلى أعمال أرقى ومناصب أعلى وأصبح معظمهم إن لم نقل جميعهم وزراء، وتم ذلك قبل أن تتوافر كوادر تحل محلهم فانهارت تجربة بناء الفكر الاستشاري وإنعاش ذلك القطاع كبقية القطاعات الأخرى على الرغم من أهميته، وفضلت حكومات الخليج بعد ذلك إعطاء "الخبز لخبازه" حتى لو أكله كله وليس بعضاً منه، حيث أسندت الاستشارات خلال العقود الأربعة الماضية إلى شركات أجنبية وأصبحت تلك الشركات تسيطر على نحو 90 في المائة من حجم السوق الذي يبلغ في السعودية فقط أكثر من عشرة مليارات ريال، وتنقسم الشركات الاستشارية الأجنبية إلى قسمين أولهما المشتركة مع مكاتب سعودية وهي متواجدة داخلياً وتوظف كوادر سعودية ولو بنسبة قليلة، أما القسم الثاني وهو الأغلب والذي يحتكر السوق منذ فترة فهي شركات لا تقيم في الداخل ولا توظف سعودياً واحداً، وعلى الرغم من أن عددها قليل ولا يتعدى أصابع اليد الواحدة فقد أسندت لها أعمال كبيرة بل وفوق قدرتها مما جعلها تستعين بكوادر تعمل بالقطعة من جميع أنحاء العالم بواسطة وسائل الاتصال التقنية الحديثة وقد أثر ذلك على مستوى جودة أعمالها. ولجأ بعضها إلى أسلوب "القص واللصق" الذي يجعل تقاريرها نسخة مكررة ينتهي بها المطاف في رفوف مكاتب المسؤولين.
ولعل ما جعل الشركات الاستشارية القليلة تسيطر على أسواق الخليج تبادل أسماء تلك الشركات بين المسؤولين بثقة والتوصية عليها، وعدم تطور الشركات الاستشارية المحلية لتقدم نفسها بقوة. ويقول مسؤول في مجلس الغرف التجارية السعودية إن في السعودية أكثر من 8 آلاف مكتب استشاري مرخص لها، ولكن لا يزاول المهنة إلا "40 في المائة" منها وتتنافس هذه المكاتب على "10 في المائة" من حجم السوق فقط، بينما تذهب النسبة الكبرى للشركات الأجنبية.
وأخيراً: مشكلة قطاع الاستشارات في السعودية والخليج أنه يبحث عن هوية، فليس هناك جهة مرجعية لهذا القطاع تضع له المعايير وترسم له طريق التطور ليكون قطاعاً منافساً وجاذباً للكوادر الوطنية من حيث المرتبات والتدريب، كما لابد من الاندماج بين المكاتب الصغيرة لتصبح كيانات قوية قادرة على المنافسة. أما إن ظلت على ما هي عليه فإن مليارات هذا القطاع ستظل تنساب إلى الخارج في ظل إسناد الأعمال لأربع أو خمس شركات دون إشراك الكوادر الوطنية لتعلم هذه المهنة والتي تعتبر من أرقى المهن وأكثرها تأثيراً على مستقبل بلداننا فهي التي ترسم الخطط الاستراتيجية للمستقبل وتساعد في تنفيذها، وأهل البلد دائماً "أدرى بحلول مشكلاتها" يا أصحاب القرار.