أمريكا تحارب «القاعدة» وتدعم أمها

استكمالا لما سبق، فإن العديد من الباحثين الأمريكيين يقرون بأن مفهوم "الجهاد" قد تغير لدى "المجاهدين" في أفغانستان عما كان عليه في بدايات "الجهاد الأفغاني"، حيث نشأ كعمل مشروع للدفاع عن النفس وتحرير الأرض ـــ وهو ما دعمته المملكة كواجب متحقق دينياً وإنسانيا وأخلاقياً، وحق للإنسان الأفغاني، تقره المواثيق الدولية ـــ إلا أنه ومع توافد من يحملون أفكار "أبو الأعلى المودودي، وحسن البنا، وسيد قطب"، تبدل هذا المفهوم، لتصبح عملية مقاومة الاحتلال السوفياتي، فيما بعد، أمراً ثانوياً، وأن الأولوية في وجوب الجهاد هي لفرض الحكم الإسلامي المتطرف على العالم أجمع، و"تمدده"، بحجة أن "المجتمعات في العالم المعاصر مجتمعات جاهلية" أي أنها "كافرة مشركة"! وأن المجتمعات العربية والإسلامية، فضلاً عن غيرها، هي المعنية بالوصف في قول سيد قطب: "المجتمع الجاهلي"، أي أنها المستهدف الرئيس! هكذا نصاً كما في كتبه، وأن البداية تكون بإسقاط النظم في الدول العربية والإسلامية لتحقيق ما يسمى بدولة "الخلافة" وفق مفهومه! وهو تماماً الفكر ذاته الذي يحمله اليوم تنظيما داعش والقاعدة.
وهكذا يبرر كثير من الباحثين الأجانب بأن دعم الولايات المتحدة للجماعات المقاتلة في أفغانستان المعروفة باسم "المجاهدين" كان وفق المفهوم الأول، إضافة لما يعترفون به من قصور لديهم في فهم "ماهية الإسلام، والجهاد".
كما تجمع التقارير الاستخبارية المعلنة، والدراسات والأبحاث المتداولة، والتقارير الإعلامية الموضوعية، تجمع على أن تنظيم "القاعدة" نشأ بدايةً في أفغانستان، كتنظيم إرهابي دولي خطير، يحمل أيديولوجيا إسلامية متطرفة، تتخذ من أدبيات وكتب وأفكار الثلاثي "قطب، والبنا، والمودودي" أساساً له، وأن هذا التنظيم لم يكن ليَنشأ لولا توافر البيئة المناسبة الحاضنة، وأن هذه البيئة هيأ لها القيادي الإخواني، فلسطيني الأصل أردني الجنسية "عبد الله عزام"، الذي تنقل في دراسته ما بين سورية والأردن، ليحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة الأزهر في مصر، ثم ليعمل عضو هيئة تدريس في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، التي خرجت في الفترة ذاتها الإخواني أسامة بن لادن، ثم انتقل عزام بعد ذلك إلى الجامعة الإسلامية الدولية في إسلام أباد ليكون قريباً من "البيئة النضالية القتالية في أفغانستان"، ثم إلى ملاك رابطة العالم الإسلامي، قبل أن يستقيل، ويتفرغ "للنضال"، وقد عمل فور قدومه لباكستان وأفغانستان على نشر فكر "البنا، قطب، المودودي" بين المقاتلين "المجاهدين" عبر "مكتب خدمات المجاهدين" كما قام باستقطاب كثير من شباب العرب إلى هناك، عبر اهتمامه بالدعاية والإعلام، وإعلانه "وجوب الجهاد" وأنه "فرض عين على المسلمين القادرين"! وبدأ دعوته إلى إعادة تأسيس "دولة الخلافة"، وبذلك وصله الآلاف من المقاتلين العرب، وكان من ضمنهم الشاب الإخواني ـــ السعودي في ذلك الحين ـــ أسامة بن لادن، والإخواني المصري زعيم حركة "الجهاد الإسلامي" أيمن الظواهري، حيث التقى هذان الأخيران هناك، وانشآ ما يسمى بـ "بيت الأنصار" بتنسيق كامل وتعاون تام مع "مكتب خدمات" عزام، وبعدها بسنوات قليلة بدأت تتشكل فكرة انشاء تنظيم القاعدة في ذهنية الثلاثة "المعلمان العرَّابان/ عزام والظوهري، والتلميذ النجيب الغني ابن لادن"، وما لبث أن دب الخلاف بينهم بعد تحرير أفغانستان، حيث أصر عزام على أن تكون الوجهة التالية للتنظيم هي فلسطين، فيما أصر الظواهري وابن لادن على أن الهدف التالي هو الدول العربية والإسلامية وبالأخص "جزيرة العرب"، وهو ما رفضه عزام، بحسب ما تم تداوله من أخبار، وقد اغتيل حين كان هذا الخلاف في أوجه، ليكمل بذلك الثنائي "الظواهري وابن لادن" عملية تأسيس هذا التنظيم ليظهر في العلن وبشكل أكثر وضوحاً، خاصة بعد عودة بن لادن الأخيرة لأفغانستان في التسعينيات الميلادية، وتحالفه مع طالبان "النسخة الجنوب آسيوية للفكر الإخواني، التي تأثرت بالمودودي كثيرا" وليواصل دعوى "عزام" بأن "الجهاد أضحى فرض عين على القادر" وأن على "المسلمين" أن يتحولوا من مرحلة "الدفاع" إلى "الهجوم" وليقاتلوا "الأمريكان" أينما وجدوهم، وبالأخص في "جزيرة العرب" كان ذلك في الفترة ما بين 1996 و1998.
في هذه المرحلة، أُعلن رسمياً أن تنظيم القاعدة تنظيم إرهابي. وهو التنظيم الذي يعده الباحثون بمثابة تجسيد لأبرز ثمار فكر "المودودي، البنا، قطب"، الذين أوجدوا النموذج النظري للتنظيم عبر كتاباتهم، وليُحَوِله الثلاثي "عزام، الظواهري، ابن لادن" إلى تطبيق عملي. وإذا ما علمنا أن " قطب، والبنا، والمودودي" هم ذاتهم منظرو جماعة الإخوان المسلمين، وأنهم ـــ ظاهرياً ـــ من أنشأها، ونشر فكرها، فإننا نصل إلى نتيجة منطقية، مؤداها أن هذا التنظيم الإرهابي قائم على فكر هذه الجماعة الغامضة، ليكون أحد أذرعها العسكرية، وليس كما يروج له من ادعاءات تَنسب هذا التنظيم زوراً إلى النهج السلفي، تحت كذبة ما يسمى بـ "السلفية الجهادية"! خاصة أن المنهج السلفي ذاته يصنف فكر القاعدة كفكر خارجي، ويصف معتنقيه ومريديه بـ "الخوارج".
لكن اللافت فعلا أنه في الوقت الذي جرى فيه تصنيف القاعدة منظمة إرهابية، وإعلان الحرب عليها، خرجت أصوات أمريكية تنادي بالتعاون مع الحركيين الإسلاميين! مدعية أن حركات الإسلام السياسي المتطرفة، ممثلة بجماعة الإخوان المسلمين بفروعها، أضحت منظمات "معتدلة" هكذا بهذا اللفظ! وأنها هي الفاعل الحقيقي داخل المجتمعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل أكثر من ذلك، فقد قالت هذه الأصوات إن الوصول إلى تفاهمات مع حركيي هذه الجماعة في مختلف الدول العربية والإسلامية سيؤمن تحقيق مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وسيؤمن السلام! وهو ما رأيناه فيما بعد من دعم أمريكي مطلق لمثل هذه الحركات المتطرفة، تمثل بدعم مباشر لأم جماعات الإرهاب السني، جماعة الإخوان المسلمين، ورأينا الإدارة الأمريكية تدعم وصولهم للسلطة في عدة دول عربية، بما فيها مصر، وتحاول التدخل بصلف في الشأن المصري والضغط بكل ما تملك من إمكانات لحماية حكم الإخوان من السقوط، وما زالت تعمل بشكل غير مباشر لإعادته بعد أن أسقطه الشعب المصري، وكأنها تردد بهستيريا": مرسي سيعود!.. مرسي سيعود!" تماماً كبعض الهستيريين من الإخوان المسلمين السعوديين الذين صدمهم المشهد وبدد آمالهم!
كيف لأمريكا أن تقول إنها تحارب "القاعدة" وهي تدعم أمها الأيديولوجية المتمثلة في "جماعة الإخوان المسلمين" في الوقت ذاته؟! الإجابة الأسبوع المقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي