استراتيجية أمريكا الجديدة للسيطرة
استمعنا لخطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الأسبوع الماضي أمام خريجي أكاديمية وست بوينت West Point أقدم وأعرق أكاديمية عسكرية أمريكية تُعنى بتخريج ضباط الجيش الأمريكي، وتركز الخطاب على عرض السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة الحالية.
خطاب "دعائي" بامتياز، ذلك الذي استمعنا إليه، وهو خطاب موجّه للداخل والخارج على السواء، تناول من خلاله الرئيس الأمريكي الأحداث على الساحة الدولية، وشرح موقف وتفاعلات بلاده تجاهها، إلا أن الناظر لما ورائيات هذا الخطاب يلمس تغيّراً كبيراً، ليس في السياسات العامة الرئيسة، بل في التكتيكات الرئيسة المستخدمة لتنفيذ هذه السياسات، فإنه على الرغم من أن المحفل في عقر صناعة العنصر البشري للقوة الأمريكية الخشنة "ضباط أقوى جيش في العالم" كما قال أوباما، إلا أن اللغة كانت ناعمة، لكن ليست مُطمئِنة.. كيف؟!
اختفت تماماً لغة "القوة الصلبة"، منبئة بتحول أمريكي كبير، تجاه الاعتماد بشكل أساس على أساليب القوى الناعمة، لتصبح أداة أمريكا الرئيسة في تنفيذ سياساتها وتحقيق أهدافها على الأرض، وهو ما عكسته جمل عدة ذكرها في خطابه، كقوله: "إن قيمنا (الأمريكية) ملهمة القادة في البرلمانات وفي الحركات الشعبية في جميع أنحاء العالم"، وقوله: "التكنولوجيا والعولمة وضعتا القوة في أيدي الأفراد"، وقوله: "وسائل التواصل الاجتماعي جعلت من المستحيل علينا تجاهل الصراعات الطائفية، والدول الفاشلة، والثورات الشعبية" ثم أردف: "مهمة جيلكم هي الاستجابة لهذا العالم الجديد، والسؤال الذي نواجهه هو ليس ما إذا كانت أمريكا ستقود، لكن كيف ستقود، تأمين السلام والازدهار، ليس لدينا فقط، لكن أيضاً لتوسيع نطاق ذلك في جميع أنحاء العالم.. أن نقول: إن لدينا مصلحة في السعي لتحقيق السلام والحرية في العالم لا يعني أن كل مشكلة لها حل عسكري"، إلى أن قال: "التكنولوجيا جعلت القوة والتمكين بأيدي الشعوب – وليس الحكومات - وهذه القوة لا يمكن القضاء عليها بيد من حديد.. علينا توقع التغييرات في أي لحظة... تحالفاتنا ليست مع الحكومات فقط، لكن مع الناس العاديين"، وهنا يبرز التساؤل المنطقي: هل عالم السياسة الدولية، عالم نبيل؟ أم عالم براغماتي جاف، تحكمه المصالح، ولا مكان للعواطف فيه، تسعى الدول "القوية" لتحقيق أكبر قدر من المكاسب؟
"القوية" – بحسب ما يُفهم من ميثاق الأمم المتحدة - هي تلك الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، التي أضحت - بشكل أو بآخر- تفرض سيطرتها على العالم، عبر عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، التي تخول لحائزها صلاحية استخدام حق النقض VETO، وتأتي الولايات المتحدة كأبرز هذه القوى؛ فهل تسعى أمريكا – يا ترى - لكسب الأصدقاء، وإحلال السلام والعدل والرخاء في العالم؟ أم أنها تسعى للهيمنة عليه أكثر فأكثر؟!
بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) تردد كثيراً عبر وسائل الإعلام الأمريكية ذلك التساؤل الشهير: "لماذا يكرهوننا لهذا الحد؟"، إنه اعتقاد أمريكي بوجود رأي شعبي مناوئ لأمريكا في العالم الإسلامي، وقد تولّد هذا الاعتقاد نتيجة استطلاعات الرأي التي جرى تطبيقها على دول عربية وإسلامية عديدة. فهل سعت أمريكا بعد ذلك لحل ما تراه هي أنها موجة كراهية تجاهها تجتاح العالم الإسلامي – بحسب الدراسات الأمريكية - أم أنها فاقمت من المشكلة؟
لقد أعلنت الولايات المتحدة بُعيد 11 أيلول (سبتمبر) ما تسميه "الحرب على الإرهاب"، وبذريعتها غزت أفغانستان، فالعراق المستقر نسبياً، لتسلّمه – بحسب المحللين - على طبق من ذهب لإيران، وليصير مرتعاً خصباً للجماعات الإرهابية الطائفية المتطرفة الشيعية والسنية على السواء، التي أثبتت المعلومات المتداولة أن قيادات هذه الجماعات الإرهابية الطائفية تربطها – بشكل أو بآخر- علاقات بطهران، ومذ ذاك الحين لا يكاد يمضي يوم إلا ونسمع عن سقوط ضحايا أبرياء من أبناء الشعب العراقي الشقيق، وأصبح شبح التقسيم والتشرذم العراقي يلوح في الأفق أكثر من أي وقت مضى.
وكنتيجة منطقية فقد ازدادت – بحسب استطلاعات الرأي التي قامت بها الولايات المتحدة - معدلات "الكراهية" أو ما يسمى Anti-Americanism بين صفوف الشعوب العربية والإسلامية، وأصبحت الأمور أكثر تعقيداً مما كان عليه واقع الحال قبل أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، ما حدا بالكثير من السياسيين والمحللين الأمريكيين ليدفعوا باتجاه تغيير السياسات الأمريكية في المنطقة، لتبدو أكثر سلمية، وذلك عبر دعوتهم لتفعيل أدوات "القوة الناعمة" وزيادة الاعتماد عليها، في مقابل تقليل الاعتماد على "القوى الخشنة" لتصبح بالحد الأدنى، ولتبدأ الولايات المتحدة "معركة" جديدة في العالم العربي والإسلامي - وبالمناسبة هم من يسميها المعركة - تأتي كامتداد للأولى لكن هذه المرة بأسلوب مختلف، أسلوب "ناعم"، وقد أطلقت عليها معركة "كسب العقول والقلوب" أو"تغيير العقول والآراء" Changing Minds، وفق ما جاء في التقرير الخاص الذي رفعه إدوارد جرجيان Edward Djerejian لمجلس النواب الأمريكي بعنوان "تغيير العقول: اتجاهات استراتيجية جديدة للدبلوماسية الشعبية الأمريكية في العالم العربي والإسلامي".
انتهت مساحة هذه المقالة، لذا سأكمل الأسبوع المقبل مبتدئاً بالربط ما بين هذا التقرير، وما توصلت إليه دراسة إسرائيلية حديثة من أن "الدبلوماسية الدينية" هي الأكثر فاعلية في دول الشرق الأوسط، كون شعوبها متدينة بطبعها، وقد قصدت بـ "الدبلوماسية الدينية" بكل وضوح استخدام "الدين" والراديكالية للتحكم عبرها في الشعوب وجعلها تنفذ ما يصب في النهاية لمصلحة إسرائيل.