دبلوماسية الفنون والرقص
"أحب الرقص العربي، والسعودي خاصة، أريد أن أتعلمه، هل تعرف أحداً ليدربنا ويدرب الطلبة عليه في المدرسة؟" كان هذا طلب معلمة ابني ورائدة صفه الشابة الماليزية الجميلة – سيخية من أصول هندية - بعد أن انتهت للتو من مناقشتي حول أداء ولدي لديها، وذلك في يوم لقاء الآباء والأمهات في مدرسة عبد الرحمن ذات نظام التعليم البريطاني الدولي، مشددة على ولعه وإبداعه في الرقص، وإعجابها بذلك!
جرت العادة أن تقيم المدارس الدولية في جميع أنحاء العالم يوماً للرقص والغناء واستعراض الزي الوطني لأبرز الدول والثقافات حول العالم، ويدعى هذا اليوم "اليوم العالمي"، تتخلله مسيرة للطلبة بالزي الوطني وأغان ورقصات، ومأكولات ومشروبات شعبية، وكان نجلي يرتدي، في احتفال مدرسته في ذلك اليوم، الزي الوطني السعودي، وكنت ووالدته نحضر القهوة السعودية والتمر السكري، لنضيّف بهما الحضور والمعلمين والطلبة الكبار.
كان من نضيفهم يقولون حين نسكب لهم فنجان القهوة:" أهذا شاي أعشاب وبهارات؟" فنكرر لهم: إنها قهوة، فيستغربون من لونها الفاتح وطعمها ونكهتها الزكية. قال لي صديق أمريكي:" قهوتكم خيالية! لذيذة وخفيفة، يجب أن تفتح وزوجتك محلاً للقهوة، فرددت عليه ممازحاً:" سأسميه (سعودي بكس)، وسيسحب البساط من تحت أقدام (ستار بكس)!" فرد صاحبنا: "بالتأكيد!" ثم أتبعنا ذلك – معا - بضحكة مجلجلة.
في اليوم العالمي صدحت أغان من مختلف ثقافات الأرض، ورقص الطلبة رقصات شرقية وغربية، كانت نظرتهم للرقص العربي هي تلك النظرة النمطية تجاه الرقص الشرقي الذي نشاهده في الأفلام العربية، لم يعرفوا قط الرقص السعودي بتنوع فنونه، التي تشكل فسيفساء ثقافية غنية جداً، أزعم أنها لا توجد في دولة أخرى، عربية كانت أو أجنبية!
حقاً نحن أثرياء ثقافياً وتراثياً إذا ما قارنا حالنا بدول كثيرة حول العالم، فلو استعرضنا فنوننا ورقصاتنا الشعبية النجدية والحجازية والجنوبية والشمالية والشرقاوية، لخلصنا إلى عشرات الفنون التراثية الراقصة الجميلة، ناهيك عن الأزياء الشعبية بمناسباتها، والأكلات الشعبية بتنوعها وغناها. أذكر حينها أني تساءلت بحرقة: "أين فرقة عنيزة للفنون الشعبية؟ .. هذا وقتها"!
شعور مختلط ما بين الزهو والحسرة! ذاك الذي اختلجني وأنا أتأمل ذلك الكنز التراثي الفني العريق الذي نمتلكه ويجهله كثير من الناس في الخارج - سامري، خبيتي، ينبعاوي، حوطي، مزمار، عرضة بأنواعها، دحة، دبكة وغيرها - بل يولعون شغفاً به، بمجرد أداء فن واحد من هذه الفنون الجميلة والعريقة الضاربة في عراقتها إلى أعماق حضارة هذا الإنسان السعودي العظيم وتاريخه التليد.
فرنسا، ألمانيا، اليابان، والصين، بل حتى تايلاند وسريلانكا وغيرها من الدول تنظم باستمرار حول العالم فعاليات فنية غنائية راقصة، بل إن لدى الأمريكان ما يسمونه "دبلوماسية الجاز"، فلم نحن مقصرون في توظيف هذا النوع الجميل الراقي والخفيف من دبلوماسية الفنون؟ تلك الدبلوماسية التي تأتي ضمن سياق الدبلوماسية الثقافية والشعبية طويلة الأثر، ولنقصص عبرها قصتنا: "قصة السعودية" الإنسان والتاريخ والحضارة.
نسمع بين فينة وأخرى عن أسبوع ثقافي سعودي هنا وآخر هناك، كما نقيم سنوياً في العاصمة الرياض مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة والفنون، وفي الطائف سوق عكاظ، وفي أبها مهرجان أبها، وغيرها في مدن أخرى، لكن ذلك كله يعد ضئيلا جداً إذا ما قارناه بحجم العالم وحجم تراثنا وفنوننا التي أهملناها، لنتساءل معا: هل أوصلناها للعالم كما يجب؟!
حين أتحدث مع البعض عن فنوننا العربية الأصيلة، وأنها مختلفة تماماً عما لديهم من صورة نمطية عنَّا، يتساءلون:" لم أنتم غير مهتمين بتقديم فنونكم لنا؟ للعالم؟ نحن شغوفون لنستمع لكم، فلا نعرف عنكم سوى بترول وصحراء وجمال وأموال!" و يستدرك أحدهم: "ومكة والمدينة بالطبع"!
لقد خَلُصَت الدراسات الحديثة في هذا المجال إلى ثلاثة أسباب رئيسة تدعونا لتفعيل دبلوماسية الفنون بأنواعها (غناء، فولكلور تراثي، رقص شعبي، مسرح، فنون تشكيلية وروايات أدبية ودواوين شعرية وغيرها) وإعادة النظر في ذلك، نظراً لما لهذا النوع من الدبلوماسية الشعبية من أهمية.
أُول هذه الأسباب أن هذا النوع من الدبلوماسية الشعبية يأتي تلبية واستجابة لشغف الشعوب في الدول الأجنبية بالفنون، ما يعني أنه يقدم إشباعاً لرغباتهم في هذا الجانب واهتماماتهم به. فمن خلال دبلوماسية الفنون نظهر حرصنا على إطلاعهم على ثقافتنا وفننا، وإشراكهم معنا عبر عرض تاريخنا وتراثنا، وهو ما ينعكس إيجاباً على صورتنا الذهنية لديهم.
ثاني هذه الأسباب هو ما تسهم به دبلوماسية الفنون هذه - وبشكل فاعل - في توفير سياق غني للثقافة السعودية تلمسه وتعيشه شعوب العالم، عبر المشاركات والفعاليات المتنقلة الدائمة، وعبر توفير وسائط متعددة عبر الإنترنت أو عبر الأقراص المدمجة وغيرها. فمن خلال إنتاج هذه المواد، نبرز للشعوب المختلفة كم نحن متعددو الأبعاد والخلفيات، وأغنياء ثقافياً وحضارياً، إذ لا يمكن حصرنا أو قولبتنا في شكل نمطي واحد بسيط، بل نحن أكبر من ذلك وأكثر تنوعا وتعقيدا. وبعبارة أخرى فإننا من خلال دبلوماسية الفنون نظهر لهم مشاعرنا الإنسانية وامتداداتنا الحضارية الضاربة في عمق التاريخ والتراث البشري، والمؤثرة في بناء الحضارة الإنسانية بكل تعقيداتها.
وآخر هذه الأسباب يتمثل في تقديم دبلوماسية الفنون فرصة سانحة للجماهير الأجنبية لمعايشة تجربة إنسانية فريدة، تظل محفورة في الذاكرة، وفي العقل الباطن. فمن خلال الفن تتشكل الانطباعات القوية التي قد لا تنسى بسهولة. إن هذا النوع من الدبلوماسية الشعبية يجعل الشعوب في الخارج ترتبط بنا وبوطننا عبر لحظات ماتعة غنية بالمشاعر الإنسانية العميقة والمميزة والخاصة جداً، ما يعطي حياة الشخصية السعودية قيمة رفيعة ذات أبعاد متعددة في عقول هذه الجماهير.