القضاة بين الجنة والنار
القضاة ثلاثة: "قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض قضى بالهوى فهو في النار، وقاض قضى بغير علم فهو في النار، وقاض قضى بالحق فهو في الجنة".
الراوي: عبد الله بن عمر المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الرقم: 4447 ومرتبة الحديث: صحيح. من الواضح أن ارتكاز كثير من الناس خطأ في فهم الحديث وفي الوقوف عند دلالته ومعناه، رغم صريح ألفاظه، وظهور معانيه، على نحو التفسير لا التأويل، وعلى نحو الظهور اللفظي البين. الذي لا يحتاج إلى إعمال فقه الأصول، وقواعد الاستنباط في مناقشة بعض مبانيه.
الحديث الصحيح هذا جاء في مورد - تقسيم القضاء إلى أفراده الطبيعيين، فهو صريح في الدلالة الخبرية عن الفعل والجزاء عليه، وفي الفعل وثوابه، وفي المقدمة ونتيجتها. القاضي بالجهل في النار، والقاضي بالهوى الذي يغلبه على التثبت أو السيطرة على النوازع والميول، والحب والكره، والرغبة والعزوف وكل مصاديق الهوى هو أيضا في النار. والقاضي بالتجرد للحق ونصرة المظلوم هو في الجنة ونعيمها.
إن دلالة التقسيم في الحديث بين ثلاثة قاض بالجهل وقاض بالهوى وقاض بالحق. وهذا مما لا يجعل الحديث صالحا للاستدلال به في ذم القضاء، ولا في ذم العمل فيه، ولا في التزهيد في الإقبال عليه، وإن البشارة بالجنة لمن أقام الحق وسعى إليه بسعيه، وبذل جهده وبصيرته، وبمن طلب العدل بعلمه بما استطاع إليه سبيلا. وإن دلالة الحديث لا صلة لها بما يستعمله الكثيرون فيه، وهو ذم القضاة، وجعله وصفا لهم في كل أحوالهم. أو يسوقه بعض الكُتاب في دلالة أجنبية تماما عن معناه وهي "الكثرة والقلة". بما أن ثلثين من القضاة في النار وثلث فقط هم في الجنة. أي أن اثنين من كل ثلاثة في النار والناجي منهم واحد، وهذا لا صلة له بالحديث في ألفاظه ومعانيه.
إننا نشكل تصورا عقليا لبعضنا، ثم نتعامل على هذه التصورات المركبة، بعيدا عن كونها صحيحة أم خاطئة، بعيدا عن كونها تستند على أساس أم لا أساس لها. فرب مشهور لا أصل له.
وهذه التصورات هي الرأي الجمعي الذي نعيد اجتراره، ونعيد ترسيخه، ونحرص على ثباته في العقول والنفوس، حتى ولو كانت نتيجته أتت من مقدمة خاطئة تماما، ومخالفة للأصول العامة في الفقه والتشريع.
إن أكثر عمل يورث العداوة لصاحبه هو القضاء، لأن كل محكوم عليه بعقوبة يحسب نفسه قد نال أكثر مما يستحق من الجزاء، وإن كل من يحكم عليه في رد حق، يخبر الناس عن ظلم القاضي له، ولو استيقنت نفسه العدل في الحكم، بل حتى القاتل عمدا وقصدا يرى أنه يستحق أن يحكم عليه بغير ما أمر الله به في محكم التنزيل. إن القضاة في مجتمعنا .. قد نالهم من ظلم التصورات، وظلم الأحكام الجائرة عليهم الكثير، وهذا الفهم للحديث منها. في جعل الأصل في القاضي أنه مستحق للنار حتى يخرج منها، وهذا باطل لكونه يتعارض مع صريح أمر الله -عز وجل- بوجوب إقامة العدل بين الناس، ووجوب الحكم بينهم بالقسط، ما يجعل القضاء واجبا كفائيا يجب أن ينهض به البعض ليسقط عن الباقين وإلا أثموا جميعا. وحيث إن القاضي ليس معصوما، ولا خارجا من بشريته، ينبغي أن يكون له حق الخطأ كما له أجرا الصواب. لأن البشرية تقتضي الضعف، والغفلة، والنسيان، وإدراك الظاهر بحدود الحس، وتفاوت يقظة النفس وأحوالها، وحلمها وغضبها، وحزنها وإقبالها، وشتات القلب وحضوره، والبصيرة التي تسمع ما لم يُقال، وتبصر مع تعاظم عدد الشهود، وضجيج بكائهم "بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون". وفي هذا كله تتفاوت الرتب وتتباين الدرجات. يا أيها الناس: ارفعوا قضاة العدل في وعي الناس إلى المنزلة التي رفعهم الله إليها. فهم عماد العدل وضميره الناطق. والشهداء على كل مجتمع بمكنونه المستتر، وبحقيقته المواربة.