دراسة الفقه بين كتبه والقانون

يحتاج طالب الفقه الحقوقي إلى شرح الطريقة المتميزة التي تسهل عليه استيعاب الفقه، والقدرة على التحليل العلمي والتكييف، والغالب أن الذي يقرأ كتب الفقهاء يجد أنهم تناولوا الفقه عن طريق معالجة الفروع والجزئيات ابتداء، وربما يتناول الكليات والمبادئ العامة في طريقه بحسب المناسبات، ولذلك تجد الطالب الذي يدرس الضمان يجد في اللقطة أحكاماً لضمان الملتقط، وفي البيوع ضمان المبيع، وكذلك في الرهن والعارية والجنايات.
ويمكن لقارئ الفقه أن يستحضر تلك الفروع مع مبادئها؛ ليشكل لديه أبرز أحكام الضمان وقواعده الكلية، والسبب في اختيار هذا الأسلوب الفروعي في كتب الفقه الإسلامي؛ أن الفقه إنما بدأ تدوينه بجمع الحوادث التي نقلت فيها أقضية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفتاواه، ثم ما كان من الصحابة، وحصل أن علماء الحديث عقدوا أبواباً للتصرفات والأفعال كالبيع والشركة... إلخ، ثم حصل تدوين الفتيا من الأئمة، وتوزيعها في الأبواب تحت الأحاديث والآثار، وبعدها اكتملت منظومة تدوين الفقه، إلا أن الفقهاء المتأخرين وجدوا أن هذا الأسلوب أمر واقع فاستمروا عليه بدون تجديد الأسلوب.
ومثل هذه الطريقة تجعل الطالب يتأخر كثيراً في فهم المبادئ والقواعد العامة لكل موضوع، وبالتالي لا يستطيع إدراك الفقه بطريقة تكاملية حتى يلم بقراءة غالب الجزئيات والفروع، ومحاولة الاستذكار المستمر لهذه الجزئيات، بينما نجد الفرق في كتب القانون التي تعمد على دراسة المبادئ العامة، ثم تفرع عنها الجزئيات، فنظرية الالتزام تدرس كوحدة كاملة تحت مفهوم الحق المالي، ويتفرع منها الحق الشخصي بمباحثه وجزئياته، وبالتالي فيدرس الطالب مثلاً الضمان كفكرة واحدة في جميع الجزئيات، ويبقى الطالب يتابع الضمان من ولادته إلى وفاته، ويتجلى في ذلك الإحاطة والتسلسل، بحيث تتكون لديه العقلية الفقهية في باب الضمان في فترة وجيزة، لأن الدراسة تمت عن طريق المبادئ العامة والكليات، ثم التفريع عنها، ومن يقرأ كتب النظريات القانونية يجد أنها أسرع طريقة في الفهم الشمولي مع ما فيها من توافق مع الشرع؛ لأن مواطن الاتفاق كثيرة بين أحكام الشرع الإلهي، وما استقر عليه التفكير السديد، وليس معنى الاتفاق في التشريعات أن المتأخر استمد أو اقتبس من المتقدم؛ بل كثيراً ما يكون الاتفاق نتيجة توارد النظر التشريعي واتفاقه في تقدير المصالح، ولا سيما في مبادئ الحق وقواعد العدل العامة التي لا مجال لاختلاف التفكير في أساسها.
ولذلك لو أعادت كليات الشريعة والحقوق طريقة تدريس الفقه والقانون بما يعزز إدراك المبادئ العامة، والإحاطة بها، بدل الإغراق في جزئيات متناثرة، تُمحى من الذاكرة بعد الامتحانات كما هو الحاصل، ومع ذلك فدراسة النظريات القانونية تخضع للتطور نتيجة للتطور الفقهي المعرفي، فبدل أن تكون نظرية الالتزام هي لب الدراسة التشريعية، حيث إن الطالب يدرس القانون المدني تحت قسمين:
الأول: يتعلق بالحقوق الشخصية والالتزامات التي تقابلها، ويتناول أحكام الحقوق الشخصية.
القسم الثاني: الحقوق العينية وما يتعلق بها من مباحث، وقد يسمى هذا القسم بـ "نظرية الأموال" باعتبار المال هو العنصر البارز في الحق العيني، وتحت هذين القسمين يقوم الفقه القانوني في تقسيماته المشهورة وفق الصياغة الفنية له.
فالقسم الأول ما يتعلق بالحقوق الشخصية المتمثلة في نظرية الالتزام، سواء المصادر أو الأحكام كان الفقه القانوني في نمط التعليم يدرس الطالب الحقوق الشخصية "نظرية الالتزام"، ثم يدرس العقود المسماة كالبيع والإجارة، ثم الحقوق العينية "نظرية الأموال"، ولكن هذا الترتيب بعد تأمل لم يعالج المصدر المولد للحق والالتزام، وبالتالي ظهر في القانون الألماني تدريساً لطلاب القانون بتقسيمٍ جديد يتفرع عنه لب القانون المدني، وهو إبراز المصدر المولد للحق والالتزام تحت قسمين أساسيين هما:
1 - التصرف القانوني.
2 - الواقعة القانونية.
وكان السبب الرئيس لنقد الطريقة الأولى: أن دراسة الحق والالتزام ابتداءً هو في الحقيقة دراسة للأثر دون المصدر، فلا تكتمل المنظومة بدراسة أحوال الحق والالتزام دون دراسة المنشئ المؤثر، بحيث يكون أساس البحث والتفريع والترتيب من المصدر لا الأثر، ولو تأملنا المصادر الأساسية وهما:
1 - التصرف القانوني، لوجدناه يحكي تصرف الإرادة، أي: العقد والإرادة المنفردة.
2 - الواقعة القانونية، وهي الحادثة، وهي تحكي الفعل الضار والإثراء بلا سبب، ويبقى القانون هو الذي يحدد الآثار التي تترتب على الوقائع والأعمال.
وهذا الاتجاه الجديد في تدريس الفقه القانوني وبالأخص في ألمانيا هو الاتجاه الذي بدأ يحل محل نظرية الالتزامات، ويقترب أيضاً من فكرة النمط الفقهي الإسلامي الذي يبني صياغته من أساس مصدر الالتزام لكن بالاتجاه المعاكس يبدأ من الجزئيات إلى الكليات، والفقه الإسلامي يحتاج في هذا الطريق إلى أن تجمع أجزاء المسائل والفروع، حتى تكون نظرية فيها كل المبادئ العامة والكليات، بحيث يمكن التفريع عليها بسهولة، وتكون صياغتها في قسم الأحكام العامة للتصرفات والوقائع قبل عرض العقود المسماة، وعندئذ يتلاقى الفقه الإسلامي في صياغته مع أحدث الاتجاهات القانونية الجديدة، ويتمكن الطالب من التمسك بمبادئه الشرعية، والتعرف على أفضل السبل لمعرفة فقه أحكام التصرفات والوقائع في جميع نواحي الحياة سواء في التعامل الدولي العام أو التجاري أو الحقوق الشخصية، بحيث يدخل الطالب بوابة العمل الحقوقي في القضاء، أو التحقيق والادعاء العام، أو المحاماة والاستشارات، ويكون لحظتها في جاهزية تصل إلى الحد المعقول ويمكن البناء عليها، أما الطريقة التقليدية التي تمارس اليوم فهي تعطي مسائل متناثرة، ويدخل الطالب بوابة العمل الحقوقي، يعرف بعض الجزئيات ونسي البعض وعند تطبيقها للواقع تجد التصادم بين مبادئ العدالة والحق، وبين الفهم الفقهي الذي تكون لديه، والسبب أن عقلية الشمول الفقهي غير موجودة في عقل الحقوقي الناشئ، وهذا ما يُفسر وجود أحكام غريبة، أو تصرفات لا تمت بأي صلة للعدالة والضمانات وغير ذلك من الإشكالات العملية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي