استحْي! لا تمثّل أنك أعمى

* حوار في التويتر- 1
- من أنت؟
- أنا كفيف؟
- طيب إيش يعني كفيف؟
- تعني أعمى. أنا أعمى.
* حوار في التويتر- 2
- يا أخي مو معقول إنك أعمى، وأنت تتعامل بالتويتر والفيسبوك مثلنا .. عيب، استحي، لا تمثل.
- أنا أعمى فعلا، ولا أمثل.
- إيه، العبها على غيري.
هذه عينة بسيطة من يوميات محمد سعد ذلك الشاب الكفيف المتوقد ذكاءً، ومرحاً، وتفاؤلاً، وعزيمةً تفلّ الفولاذ.. وهو يفل الفولاذ ولا يعلم ذلك، لأنه يتعامل مع الحياة مهما قست وتحدته ووضعت أمامه صخور العوائق بسهولة وباقتناع أنها أيضا تبادله تلك المحبة والمرح. يؤمن بأن الله يضع خطط أقدارنا بطريقةٍ لا نفهمها ولكنها كتبت من أجلنا ومن أجل خيرنا. لذا محمد هو الذي تعلمت منه أن الحياة كما يصف فيما نراه بمشاكلها، إنما تدغدغنا لنضحك أكثر، لنسعد أكثر.
محمد سعد أقدمه بقناعتي الشخصية بطلا بل رمزا لكفاح شابٍ يسطر كتاب حياته كأسطورة.. لا أجد غضاضة أبدا أن أصفه بمستوى بمن نقرأ عنهم من أبطال العالم الذين واجهوا أعظم التحديات وتفوقوا عليها. محمد يعيش وحيدا في مدينة الدمام، وكلمة "وحيد" ليست عزفاً على رومانسيةٍ عاطفية، بل كما يراها محمد استقلالا واقعياً لا بد أن يكون، ويرى موقناً أن لا حياة بلا استقلال. حياةٌ يعتمد بها شخصٌ في شؤون يومه على آخرين هي الإعاقة الكبرى .. هي حياةٌ بلا حياة.
ومن قال إن محمد سعد هذا الشاب وحيدا؟ حتى فيما تبدو وحدة للآخرين فهو في الحقيقة مزحوم مع نفسه، إنه عبقري في إدارة الوحدة فيحولها من خوفٍ إلى منطقة إبداع.. فهو مثلا يستطيع أن يحاكي الأصوات المختلفة باقتدار، ويؤلف مسرحيةً كاملة بين الأشخاص تلقائيا. أقول له وأنا معه على الهاتف محمد: أريد مسرحية أبطالها من الريف المصري الآن.. ثم، فجأة، لا أعي على نفسي إلا وأنا لا أستطيع أن أتوقف عن الضحك عاليا.. حتى يكاد أن يقعَ فكّي.
لم يتردد محكِّمو جائزة الملك خالد قسم الشراكة بالتنمية في الإعجاب بإنجاز واحد من إنجازات محمد وهي قائمة الطعام بالمطاعم بلغة برايل. ولذلك قصة تبدو حزينة، ولكن محمد يراها موقفا ساخرا محرجا، حين كان بالمطعم وحيدا وأُحْرِج مع النادل والموجودين بالمطعم لأنه لا يقرأ القائمة فلا يعلم ماذا يطلب، وهنا قال محمد لنفسه: "كفى! لن يتعرض كفيفٌ آخر لما تعرضتُ له". فأضاءت برأسه فكرة قائمة برايل. ولما لجأ لجمعيةٍ خيريةٍ لتطبعها له بلغة برايل، كما حدّثنا، وعدوه بالاستجابة، ثم التفوا عليه ورفضوا، بلا سبب واضح. فاضطر أن يحفرها بيديه ليلة كاملة حتى نزفت أصابعه دما. ولما أراد تسجيل ابتكار قائمة برايل كبراءة الاختراع باسمه، كانت إحدى صدماته التي يقولها بمرح، وإن كان الشعور الحقيقي دفينا: "تجرأت الجمعية "الخيرية!" فسرقت فكرتي وسجلتها باسمها." على أن الجمعية لن تستطيع السرقة مرة أخرى، بينما محمد يستطيع أن يعود دوماً لمنبع الأفكار ويجيء بجديد.
نرجع لحوارَي التويتر. الحوارُ الأول عدم معرفة معنى كفيف يدل على ضعف تعليم اللغة العربية بمدارسنا وجامعاتنا، وأخطاء اللغة تخز العين. ثم على عدم تثقيف النفس. أما في الحوار الثاني، فيدل على مهارة محمد وابتكاره وسائل جعلت التعامل مع الآيباد والمحمول والحاسوب ممكنا بل وبمهارة..
"استحْي، أنتَ تدعي أنك أعمى"، هي جملة بمثابة أكبر شهادة لعبقرية هذا الذي لم يدّع أنه أعمى!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي