الاحتكار ليس كله شرا

طبيعة التوسع والتطور الصناعي والتقني في الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي حفزت منشآت إلى تكوين تكتل trust لتسهيل أعمالها وزيادة أرباحها تحت سلطة رقابية على الأصول assets تسمى مجالس الأمناء. وقد جنحت هذه التكتلات إلى التضييق على دخول المنافسين بهدف إبقاء الأسعار أعلى من الأسعار التنافسية، وهي عملية تسمى تقنيا "الممارسات السعرية غير العادلة". وقد تلجأ هذه التكتلات إلى خفض الأسعار دون التكلفة لفترة مؤقتة بغرض الإضرار بالمنافسين الصغار ومحاولة إجبارهم على الخروج من السوق. هذه الأحداث دفعت المشرعين في دول غربية إلى إصدار قوانين سميت antitrust التي تعني مكافحة التكتل والاحتكار.
الهدف الأصلي من قوانين مكافحة الممارسات والتكتلات الاحتكارية خفض الأسعار وتوسيع الإنتاج. ذلك لأن امتلاك النفوذ في السوق من قبل أحدهم يمكنه من التحكم في السعر أو الكميات (لا يمكن التحكم في الاثنين) فوق المستوى التنافسي أو المستوى الذي يتساوى فيه السعر مع التكلفة الحدية.
في الوقت الحاضر أصبحت عملية مكافحة التكتل تدخل ضمن أعمال الحكومة في تنظيم regulate الأنشطة ذات الطبيعة التجارية. وتدخل الحكومة لتنظيم الأنشطة التجارية يأتي في أطر منع استخدام النفوذ لتعطيل قوة السوق، كما تأتي في أطر تصحيح التشوهات التي تصيب السوق، وليس في أطر إجبار الناس على البيع بغير رضاهم. خلاف الاحتكار الفردي أو احتكار القلة (أي تكتل أو تواطؤ القلة)، هناك مصادر أخرى لتشوهات السوق وأهمها وجود صعوبات في الحصول على المعلومات (أو الاستفادة منها) ووجود تأثيرات خارجية.
شراء الدواء يعد من أشهر أمثلة مشكلة نقص المعلومات التي تتطلب تدخل الحكومة بالتسعير. معلوماتنا عن كثير من الأدوية وما نحتاج إليه منها ليس بالقدر الذي يسمح لنا بالتصرف من تلقاء أنفسنا، بل وفق وصفة طبية، ولكن الأطباء يتعرضون إلى مغريات قوية من وكلاء شركات الأدوية لوصف أدوية شركات بعينها للمرضى، لها بدائل مماثلة أقل ثمنا، ولكنها لشركات أقل شهرة، وأقل مصروفات وخاصة على التطوير. تنظيم سوق الأدوية التي يفترض أن تشترى بالوصفة مبرر، إذ دون هذا التنظيم يحتمل جدا أن تقرر شركات أدوية أسعارا أعلى، اعتمادا على طلب غير مرن بسبب التواطؤ مع أطباء، أو بسبب الاحتكار (الأدوية المحتكرة تعد ضرورية في الغالب، لا يصلح معها تطبيق مقولة "دواء الغالي تركه").
وبصفة عامة، يندر أن تتواطأ مجموعة شركات كثيرة في نشاط ما على الاتفاق على سعر محدد، لوجود مشكلات عديدة تقف أمام كتمان التواطؤ أو نجاحه. ومن القصص المشهورة تآمر مديري شركات أدوات كهربائية كبرى أمريكية مثل جنرال إلكتريك ووستنجهاوس، مطلع الستينيات من القرن الميلادي الماضي، على رفع الأسعار السائدة، وقاموا بتعمية خطواتهم بأعمال تشبه أعمال الجاسوسية، حيث الالتقاء سرا في أكواخ بعيدة، واستخدام الهواتف العمومية. حكم على هذه الشركات بدفع تعويضات للمستهلكين المتضررين من رفع الأسعار، خلاف أحكام أخرى ذات طابع جنائي ضد المتورطين.
الحكم على تلك الشركات استند إلى قوانين واضحة. وزيادة في التفصيل، طورت العديد من الدول مجموعة واسعة جدا من التشريعات التي يعمل تطبيقها على حماية المستهلكين، وتصحيح تشوهات السوق، ومكافحة الممارسات المعطلة لقواه، وتناولت هذه التشريعات حتى حالات خفض السعر دون التكلفة، ويحدث هذا غالبا من الشركات الكبرى بهدف الإضرار بالمنشآت الصغيرة المنافسة للخروج من السوق. تسمى هذه القوانين أحيانا قوانين مكافحة الاحتكار، من باب الخاص الذي يراد به العام، وقد أصبحت هذه القوانين، من كثرتها وتشعبها وتعقيدها، مثل البستان الضخم الذي نما من بذور بحجم قبضة اليد.
ومع ذلك فإن مكافحة الاحتكار ليست خالية من العيوب، فقد يرى كثيرون أن الاحتكار أو التكتل يجلب، في حالات، تحسينا في الكفاءة الاقتصادية. وهناك أنشطة يرغب في كونها احتكارية، ويطلق على هذا النوع من الاحتكار في كتب الاقتصاد "الاحتكار الطبيعي natural monopoly. هذا الاحتكار يتميز 1- إما بانخفاض تكلفة إنتاج الوحدة الواحدة عند إسناد الإنتاج إلى منشأة واحدة بدلا من عدة منشآت، كما هو الحال في احتكار توفير الكهرباء والماء. 2- وإما بكون طبيعة إنتاج عدد من المنتجات تجعل إنتاجها عن طريق منشأة واحدة أكثر كفاءة من إنتاجها بواسطة عدة منشآت، مثل خدمات النقل العام في إطار عمراني محدد. إذا كانت سلع الاحتكار الطبيعي غير كمالية، فإن الحكومات تتدخل بسن تنظيمات تسعيرية، خوفا من استغلال الناس عبر قيام المنشأة برفع الأسعار عن الأسعار التوازنية أو التكاليف الحدية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي