الأسواق الناشئة .. تسييل المستقبل

هناك جدل مبرر يدور حول استخدام حكومات بعض الدول الناشئة، الاحتياطيات المالية، من أجل سند عملاتها التي تتعرض منذ أواخر العام الماضي لموجة من التراجعات والتضعضع المخيف، في إطار نمو متقهقر، أو في أفضل الأحوال نمو هش مضطرب. وهناك جدل آخر أهم، يتعلق بلجوء عدد من هذه الحكومات إلى صناديق الثروة السيادية لمواجهة الأزمة المتفاقمة، بينما أقدمت أخرى على تسييل أصول لها، لاستخدامها لهذا الغرض، بدلاً من إبقائها في استثمارات استراتيجية طويلة الأمد. ورغم مخاطر استخدام الاحتياطيات المالية بهذه الصورة، إلا أن اللجوء لأموال الصناديق السيادية يكتسب مخاطر مع دلالات ترتبط بمستقبل الأجيال القادمة، التي يفترض أن أموال الصناديق موجودة من أجلها. إنها في النهاية أزمة متفاعلة. صحيح أنها تشهد بعض الهدوء، لكنها لا تزال تهدد اقتصادات الدول الناشئة.
حاولت بعض الحكومات الاعتماد على العلاج التقليدي في مثل هذه الحالة، وهو رفع معدلات الفائدة للحفاظ على قيمة عملاتها، إلا أنها واجهت "ولا تزال" مشاكل جمة فيما يتعلق بالاستثمارات وتدفق رؤوس الأموال إليها. وكان مفهوماً "على سبيل المثال" أن يسجل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان اعتراضاً على قرارات البنك المركزي التركي بهذا الخصوص، لكنه "أي أردوغان" سرعان ما اكتفى بالاعتراض، وفي الوقت نفسه، قرر هو السماح بمرور هذه القرارات. لم يكن أمامه أي خيارات أخرى. إن القضية لا ترتبط بقيمة الليرة التركية فحسب، بل بسمعة الاقتصاد التركي كله. والدول الناشئة التي لا تزال قادرة على مواجهة الأزمة باحتياطياتها من القطع الأجنبي، بدأت عمليات تسييل لافتة لبعض أصولها، كي تكون مستعدة لما هو أسوأ.
الخلاف حول هذه النقطة، ينحصر أساساً في رؤية فريق أن أموال الصناديق السيادية جزء لا يتجزأ من الاحتياطي المالي، في حين يرى الفريق الآخر، أنه ينبغي عدم التعاطي مع هذه الاحتياطيات بهذه الطريقة، لأنها تخص المستقبل، على اعتبار أنها احتياطي استراتيجي لا آني. ولكن مهما بلغ الجدل من حدة، فإن التداعيات التي يمكن أن تظهر على الساحة في أي وقت، تختصر عناصر هذا الجدل. ففي الأزمات تطرق كل الأبواب، سواء تلك المناسبة أو غير المناسبة، وفي حالات الطوارئ يكون النقاش (حتى العقلاني) ترفاً ليس في مكانه ووقته. صحيح أن أموال الصناديق السيادية مخصصة للمستقبل، لكن الصحيح أيضاً، أن هذا المستقبل ينبغي أن يستند إلى أسس واقعية لا وهمية. وللوصول إليه بأفضل وضعية ممكنة، لا بد من مواجهة مطبات وعوائق، ومشاكل غير متوقعة.
ومن النقاط المهمة التي تتفاعل على ساحة الأسواق الناشئة، أن نسبة كبيرة جداً من رؤوس الأموال تغادرها. ففي غضون أسابيع خرجت تدفقات مالية من هذه الأسواق توازي ما خرج منها على مدى عام كامل. وليس هناك مؤشرات تدل على أن التدفقات المالية هذه ستبقى في الأسواق المذكورة بحجمها الراهن. يضاف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة المتهم الأول بالتسبب في أزمة الأسواق الناشئة، لخفضها التحفيز الاقتصادي المعهود، ستواصل سياسة الخفض في الفترة المقبلة، وليس مهماً التعهدات التي أطلقتها في اجتماعات وزراء مالية مجموعة العشرين الأخيرة، بأنه ستتبع الشفافية بهذا الخصوص. لا شفافية هنا. ما يوجد حقاً مصلحة أمريكية وطنية، تخضع لمعايير محلية.
لا شك في أن تعرض الصناديق السيادية لضغوط سياسية لن يقلل من قيمتها فحسب، بل يزيد من المخاطر حولها. ولكن عندما تكون غالبية الأبواب مغلقة، لن تكون هناك خيارات تذكر. والخطوات التي قامت بها بعض حكومات الدول الناشئة في هذا الاتجاه، هي في الواقع "السلاح" المتاح الوحيد على الأقل في الوقت الراهن، بصرف النظر عن الأضرار التي سيتسبب فيها حتى لمستخدميه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي