ما قيمة برميل النفط تحت الأرض؟

على الرغم من مرور ما يقارب 30 عامًا على انتقال كامل ملكية حقولنا النفطية من الشركات الأجنبية إلى الحكومة السعودية، لا تزال هناك رواسب لأفكار قديمة حول التفريق بين قيمة النفط في مكامنه قبل إنتاجه وقيمته بعد إنتاجه بقصد عرضه في السوق العالمية "وليس الداخلية". فقد كانت تلك الشركات، التي كانت تقوم بإنتاج المواد النفطية وتسويقها بموجب عقود لها زمن محدود، تعد قيمة البرميل قبل إنتاجه "صِفرًا". وهذا مفهوم ومنطقي بالنسبة لهم ولمصالحهم، إذا علمنا أنهم لا يملكون ولا يستفيدون إلا من كميات النفط التي يتم إنتاجها لتلبية حاجة الطلب العالمي. والآن، وبعد أن انتقلت الملكية والمسؤولية إلى الحكومة السعودية وتسلمتها الأيدي الوطنية، فالموضوع أصبح يتعلق بالمبادئ وبالوطنية وبالمصالح العامة وبُعد الرؤية. في أول عهدنا بممارسة سلطاتنا على ثروتنا، كانت النظرة إلى المخزونات النفطية التي لا تزال تقبع تحت الأرض لا تختلف إلا قليلاً عما كانت تمارسه الشركات الأجنبية. فقد حددنا للبرميل آنذاك قيمة متواضعة جدًّا لا تتعدى بضعة دولارات، وهي أقرب لكونها تقليدا للوضع السابق منها إلى اقتناع بجدواها. ثم تحركت الضمائر الحية وبدأ المختصون يدركون أن للنفط قيمة ثمينة سواء كان لا يزال مخزونًا في عمق الأرض ينتظر دوره في الإنتاج، أم أنه في بطون الناقلات العملاقة في طريقه عبر المحيطات إلى المستهلكين، وهو المنطق السليم. ومع ذلك، فإن قيمة البرميل من المخزون في أعماق الأرض لا تزال في حدود ثلث سعر بيع البرميل في السوق النفطية. لماذا يا تُرى؟ هذا ما سنتعرض له في الفقرات التالية.
بعض الاقتصاديين يرون أن الكميات المنتجَة التي تفيض عن حاجة السوق النفطية يُحدَّد سعرها بناء على استثمار قيمتها المتواضعة من لحظة إنتاجها للاستهلاك المحلي إلى أن يصلها دور الإنتاج للتصدير ربما بعد عقود، وحسب مستوى أسعار الفائدة السائدة حينئذ. وهذا تفسير مبسَّط لقضية معقدة. ومحدثكم لا يؤمن بهذا المنطق، ربما لجهله بمفهوم النظريات والعقائد الاقتصادية التقليدية.
وليعذرنا إخواننا الاقتصاديون، وندع النظريات الاقتصادية التقليدية جانبًا، ثم نستخدم العقل والرؤية البعيدة الثاقبة. المواد النفطية، أو ما يُطلق عليه "الذهب الأسود"، هو فعلاً ذهب بصرف النظر عن الألوان. ومما يرفع من قيمته في نظرنا ويزيد من "غلاه" عندنا، كونه مادة حيوية ناضبة، وله في حياتنا البشرية مكانة لا يمكن لأي مصدر آخر أن يزيحه عنها. ولذلك فأقل ما يقال عنه إنه عبارة عن ثروة نقدية محدودة الكمية داخل صندوق مُحكم، نقتات منه حسب متطلبات معيشتنا ورفاهيتنا. وبطبيعة الحال، فإن ما نستنزفه من الصندوق ليس له تعويض، ولن يمض وقت طويل من عمر الزمن، إلا وينتهي معه محتواه من النقود. ولكن من الواضح أننا لن نتنبَّه لواقع حالنا إلا في وقت متأخر جدًّا لا ينفع معه الندم ولا التمني. وثمة حقيقة لا بُدَّ من أن نعيها. وهي أن أسعار برميل النفط تتضاعف مع مرور الوقت، كما شاهدنا خلال العقود الماضية. وهو أمر طبيعي مع بداية شح الإنتاج وارتفاع التكلفة. فهل هناك فرق بين أول برميل يتم إنتاجه وآخر برميل بالنسبة للأسعار؟ من المؤكد أن بيع آخر برميل سيكون بسعر أعلى بكثير. وهذا هو ما نلمسه اليوم على أرض الواقع. فقيمة البرميل في وقتنا الحاضر وصلت إلى عشرة أضعاف سعره قبل عدة عقود. ولا يزال مرشحا لمزيد من الارتفاع مع قرب نضوب النفط التقليدي الرخيص. فهل يصح أن نحتسب قيمة متدنية لأي كمية منه لا تزال تحت الأرض؟ ولماذا نكيف وضعنا الفريد مع النظريات الاقتصادية التقليدية، بدلاً من أن نكيف النظريات لتتلاءم هي مع وضعنا؟
من جهة أخرى، هناك منْ سيجيبون بنعم، هناك فارق بين الحالتين. ويعنون بذلك أن إمكانية الاستغناء الكامل عن النفط أمر وارد، اقتداء بالمقولة التي تحذر من انتهاء عصر النفط مبكرًا بالطريقة التي انتهى بها العصر الحجري قبل نضوب الحجر. ومن باب أولى، بموجب هذا المنطق، ألا نقيم وزنا للكميات التي لم تصلها يد الإنتاج. وإنه لا بأس من تقييمها بما يعادل نسبة قليلة من سعر الكميات التي في طريقها إلى المستهلك لعدم أهميتها. والغرابة في هذا الأمر أن هذه الفكرة، القديمة الحديثة، نجدها مبنية على فرضيات وهمية لا تستند إلى أي أساس أو دليل علمي، بل هي مجرد تخمين. ولو استوعب هؤلاء ما للنفط من فوائد صناعية لا حصر لها ومن المستحيل توافرها في أي مصدر آخر، إلى جانب كونها مصدرًا متميزًا للطاقة، لما طرأ على البال فكرة الاستغناء عنه بالسهولة التي يتصورونها. فكم من حقول نضبت أو أوشكت على النضوب، ودولاً كانت مصدرة للمواد النفطية وأصبحت اليوم مستورِدة، ونحن لا نزال نخوض حوارات "بيزنطية" حول مستقبل النفط. فلنحافظ على ما تبقى من هذه الثروة الغالية ونعامل أولها وآخرها بالقدر نفسه الذي هي أهل له. ونعتبر قيمة البرميل في المكامن لا تقل بأي حال من الأحوال عن قيمته في الأسواق العالمية، مهما بلغ مستوى السعر.
وقد يتساءل المرء، ما مناسبة هذا الحديث؟ ونعود إلى التسعيرة التي ذكرنا آنفًا ويتعامل بها المسؤولون في بلادنا. فعند دراسة الجدوى الاقتصادية للمشاريع المحلية الجديدة التي الغرض منها توفير حرق المشتقات النفطية، على سبيل المثال، استخدام الطاقة الشمسية لتوليد التيار الكهربائي ووقود عمليات التحلية، يبنون استنتاجاتهم على السعر المخفض وليس على السعر الحقيقي العالمي لبرميل النفط. وبطبيعة الحال، فستكون النتيجة أننا نستمر في حرق ثروتنا النفطية على أساس أنها "ظاهريًّا" الأرخص، مع وجود ما يحل محلها وبتكلفة أقل لو أننا استخدمنا القيمة الحقيقية لبرميل النفط. وليس من المنطق في شيء، أن نتجاهل أمورا وحقائق واضحة المعالم ونتمسك بأوهام وتخمينات ليس لها نصيب من الواقع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي