قطر .. والتفسير «المختل» للشؤون الداخلية
لا يمكن فصل سياسات محلية بروابط خارجية عن مصالح الدول الإقليمية. فهذه السياسات لا تختص بأسعار المواد الغذائية والأغنام والعقارات والسيارات.. وغيرها، بل تتصل مباشرة بأمن المنطقة كلها، بل في حالات كثيرة بأمن الدول التي تشكل بصورة مباشرة أو غير مباشرة عمقاً استراتيجياً للمنطقة. والسياسات أو السلوكيات المحلية ذات الروابط الخارجية، ليست محلية، ولا شأنا داخليا خاصا، ولا قضية خاصة. إنها كفعل شخص أراد أن يهدم عموداً ارتكازياً للمبنى الذي يضم شقته، لأن هذا العمود مار بمنزله! فالإجراء الطبيعي في هذه الحالة، أن يمنع هذا الشخص من تنفيذ رغبة خاصة داخلية بالفعل، لكن نتائجها كارثية على الجميع. واللعب في تفسير الشؤون الداخلية والخاصة في مثل هذه الحالة، ليس فاضحاً فحسب، بل يدعو للسخرية. وإذا كانت كل قوانين الدنيا تعتبر حامي المخالف شريكا مباشرا معه، فكيف الحال بحامي المحرض؟ بل بحامي المخرب؟!
منطقة الخليج العربية، لا يمكنها إلا أن تفضح التفسير الملتبس لـ "الشؤون الداخلية". وهي كغيرها من المناطق الإقليمية حول العالم، التي لا يسمح المجموع فيها بتجاوزات الفرد. وإذا ما أخذنا في الاعتبار الحالة الحساسة والدقيقة التي تمر بها المنطقة منذ عقود، سواء ضمن إطارها، أو في دائرة عمقها الاستراتيجي، فإن مسألة السياسات الداخلية المعاندة الملتبسة والمريبة ذات الروابط الخارجية، تبدو استراتيجية تخريبية، أو في أفضل الأحوال معطلة ومربكة، إلى جانب طبعاً مخاطرها التي لا تزول على المدى القريب. إن الحالة التي تمر بها منطقة الخليج، تحتاج ببساطة إلى الحذر والحيطة مما يجري، كما تتطلب يقظة شعوبها من التربصات التي باتت جزءاً أصيلاً من استراتيجية التخريب من جهات إقليمية لم تخف نواياها، بل على العكس تماماً، رصدت كل الأدوات الممكنة لتجسيد هذه النوايا على الأرض.
ومن هنا يمكن فهم الموقف الأخير للمملكة والإمارات والبحرين بسحب السفراء من قطر، وهو في الواقع الموقف الأول المعلن منها، بعد سنوات طويلة من مواقف هادئة اعتمدتها هذه الدول، إلى درجة عمّ السؤال في كل الاتجاهات "إلى متى؟". وهذا الموقف من الناحية العملية لا يصب في مصلحة الدول المذكورة فقط، بل يصب أولاً في مصلحة دول المنطقة كلها، ومن بينها بالطبع قطر نفسها، التي اتبعت سياسة مع أشقائها الخليجيين، على مبدأ "الشريك المخالف". فإذا كان الشريك مخالفاً، فالعائد لا يحتاج إلى متخصصين للوصول إلى ماهيته، وإلى ما يفرزه من ضرر واضطراب، إقليمياً وعربياً، بصلاتهما الدولية. وهذا "الشريك" هو الوحيد الذي تمتع على مدى سنوات بصبر شركائه إلى درجة الملل. وإلى مرحلة بات معها الصبر خطيراً.. وخطيراً جداً.
كان الناتج لـ "التفسير" القطري لـ "الشؤون الداخلية" مريراً. ضعضع صفاً خليجياً ظل حتى اليوم (رغم كل شيء) أكثر الصفوف العربية تماسكاً وقوة وعوائد، على بلدان الخليج العربي، والعرب أيضاً. ولأن الأمر لم يعد محتملاً أو حتى مقبولاً، كان لا بد من موقف معلن واضح وصريح، لأن القضية برمتها لا تتعلق فقط بسلوكيات مضت، بل باستحقاقات مقبلة، فيها من الحساسية والمخاطر ما فيها. فالمرحلة المقبلة تستوجب تأطير الجهود والتحركات الخليجية ضمن الاستراتيجية الأمنية والسياسية والاقتصادية. وأي موقف يخرج عن هذا الإطار، لا بد من مواجهته بصورة لا تشبه الطريقة السابقة التي اعتمدها الخليجيون في مواجهة خلافاتهم. إن المسألة لم تعد تخص موقفا هنا وسلوكا هناك، مع "طبطبة" هنا وأخرى هناك. بل تختص باستراتيجية شاملة، ليس مسموحاً لأحد بانتهاكها.