هل تتجدد مآسي تتار القرم؟

سيطر التتار على مناطق واسعة من وسط آسيا وسيبيريا في القرن الثالث عشر الميلادي. واجتاح التتار مناطق واسعة من الشرق الأوسط في القرن نفسه وسيطروا على أجزاء كبيرة منه، لكن ما لبث أن أسلم جزء كبير من التتار. وقوي حكم التتار وزادت سطوتهم فيما يسمى الاتحاد الروسي وسيبيريا وشرق أوروبا حتى تمكنوا من إجبار كثير من الدوقيات الروسية التي منها موسكو على دفع الجزية. وقد استوطن بعض التتار المسلمين شبه جزيرة القرم في بداية القرن الرابع عشر وحكموها وسمي سكانها بتتار القرم. وتعني القرم باللغة التترية الحصن أو القلعة. وسيطر العثمانيون على شبه الجزيرة في بداية القرن السادس عشر، وذلك بعد تحالفهم مع تتار القرم. وحاولت الإمبراطورية الروسية بعد ذلك السيطرة على شبه الجزيرة بسبب أهميتها العسكرية لروسيا واعتبارها المنفذ الوحيد لروسيا إلى المياه الدافئة، لكن محاولاتها باءت بالفشل لأكثر من 200 سنة، حتى تمكنوا عند نهاية القرن الثامن عشر من الاستيلاء عليها.
وقد ارتكب الروس في اجتياحهم شبه الجزيرة مذابح دامية ومروعة في حق تتار القرم, قتلوا فيها مئات الآلاف من الأشخاص وشردوا أضعافهم. واستهدفت الجرائم الإنسانية وعمليات التطهير العرقي الممنهج السيطرة الروسية النهائية والمطلقة على شبه الجزيرة. وفر الكثير من التتار إلى الدولة العثمانية للنجاة بحياتهم واستولى الروس على أملاكهم وأراضيهم وصادروا المساجد والمدارس. ومارس الروس ضغوطاً كبيرة على ما بقي من تتار القرم لإجبارهم على الهجرة إلى المناطق الداخلية في روسيا، ونجحوا في دفع الكثير منهم للنزوح. وعند قيام الاتحاد السوفياتي حاول التتار الاستقلال عن موسكو وأعلنوا جمهوريتهم المستقلة، لكن تلك المحاولة قمعت بعنف وقتل المزيد منهم. وفي عشرينيات القرن العشرين حاول ستالين بناء دولة يهودية في شبه جزيرة القرم ولكن تتار القرم ثاروا على هذا القرار وقتل ستالين عشرات الآلاف من التتار بسبب مقاومتهم هذه الفكرة.
واتهم ستالين التتار بالعمالة لألمانيا النازية بعد الحرب العالمية الثانية وقام بتهجير الجزء الأكبر منهم قسرياً إلى سيبيريا، وتم نقلهم في قاطرات المواشي أثناء أجواء البرد الشديد، ما نتج عنه وفاة مئات الآلاف منهم. وتوج الظلم والقهر الذي تعرض له التتار باتهام مجلس السوفيت الأعلى لجميع شعب القرم بخيانة الاتحاد السوفياتي في عام 1946، ما نتج عنه إلغاء الاستقلال المحلي المحدود لشبه الجزيرة. وتسببت الممارسات الروسية الظالمة والمجحفة في تراجع عدد سكان شبه الجزيرة التتريين من عدة ملايين نسمة في القرن التاسع عشر إلى أقل من نصف مليون إنسان. وتنازل الاتحاد الروسي عن شبه الجزيرة لمصلحة أوكرانيا إبان حكم خرتشوف (الأوكراني) في خمسينيات القرن الماضي. واستمر وصم شعب كامل بالخيانة بعد الحرب العالمية الثانية حتى ألغى مجلس السوفيت الأعلى في عام 1967 قراره السابق المتهم لشعب القرم بالخيانة، لكن هذا الرفع لم يسمح لهم بالعودة إلى موطنهم، وخلت شبه الجزيرة من التتار حتى سمح لهم بالعودة في عام 1988. وظل القرم جزءًا من أوكرانيا حتى بدأت مطامع قيصر روسيا الجديد بوتن تظهر بضم القرم مجدداً إلى روسيا. ويحاول بوتن استغلال ما حدث في أوكرانيا أخيرا لإعادة سيطرة روسيا على شبه الجزيرة. ويتوجس ما بقي من التتار في جزيرة القرم من توجهات روسيا الجديدة ويخشون أن يعيد التاريخ نفسه ويحاول الروس اقتلاع ما بقي منهم من شبه الجزيرة.
إن مأساة شعب تتار القرم وتشردهم وقصص تيههم وتعرض بعضهم حتى للعبودية من النخاسين المسلمين، من القصص الحزينة في التاريخ الإنساني، وهي أشد بشاعةً حتى من مأساة الشعب الفلسطيني الذي تشرد حول العالم. وقد أنقذ دعم المسلمين للشعب الفلسطيني قضيتهم من الاندثار. لقد عمد المحتل الروسي إلى ممارسة أبشع وسائل العنف لإجبار شبعها على الخروج منها وإحلال الروس بدلاً منهم. ونجحت تلك الممارسات في جعل التتار أقلية ضعيفة في وجه الأغلبية الروسية التي تسيطر على شبه الجزيرة. لقد خسر التتار أراضيهم وجزءا كبيراً من شعبهم وأغلبيتهم والكثير من حقوقهم بسبب الوحشية الروسية التي مورست عبر التاريخ والتي امتدت لنحو 250 عاماً. وساهم وقوعهم على أطراف الدول الإسلامية وضعف وتقاعس المسلمين عن نصرتهم في ضياع حقوقهم. إن من المحزن أن شبه جزيرة القرم تاريخياً ليست أراضي روسية ولا أوكرانية لكنها أراض تخص شعباً إسلاميا شُرد عبر التاريخ، ومع هذا لا أحد يريد أن يثير هذه القضية بسبب تراجع هيبة المسلمين. ويتجلى ضعف المسلمين في تراجع مكانتهم الاقتصادية، التي تعتبر من أبرز مظاهر ضعف المسلمين، فبدون اقتصادات قوية لا يمكن بناء دول قوية ولا التأثير في السياسات الدولية. إن التنمية الاقتصادية الناجحة هي الركيزة الأساسية لبناء دول قوية قادرة على حماية حقوقها واستقلالها ونفوذها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي