المحاسبة وأهم معلومة في القوائم المالية

المحاسبة فن راقٍ، عندما تبدأ دراستها تشعر بالملل، كما البحر الذي تراه مجرد أمواج، كل موجة تتبع أختها، في رتابة مملة وصوت يبدأ جميلاً ثم يصبح مزعجاً كلما طال بك البقاء أمام البحر، وهكذا هي المحاسبة عندما تتعامل معها أول مرة، مجرد تسجيل ممل لحدث متكرر، مبيعات تتبعها مصروفات، وتسجيل مستمر للشيكات والفواتير في رتابة قاتلة. صوت الطابعات ونقرات الحاسبات يشعرك بالدوار، لكن هل كان الذي رأيته هو كل البحر، وهل كانت هذه هي المحاسبة؟ عندما تسأل بحاراً عن البحر، سيخبرك عن الهدوء الذي يخفي تحته المخاطر والأهوال، يخبرك بعدم الثقة بما تراه وتلمسه، وأن ما يبدو لك يوماً جميلاً قد يتحول إلى كارثة، يخبرك عن كنوزه، وأسماكه، عن لؤلؤه ومرجانه، وهكذا هي المحاسبة. فإذا سألت عنها خبيراً، قال إنها القوائم المالية التي تراها في جداول متناسقة جميلة وهي قد تخفي كارثة، إنها لغة الأعمال التي إن عرفتها أخذتك برموزها إلى كنوز من المعلومات الضخمة. البحر لا يخبرك هل ستبحر اليوم أو تؤجلها إلى غد، فقط انظر إلى البحر وخذ قرارك، وكذلك القوائم المالية لا تخبرك هل ستتخذ قرارك الاقتصادي اليوم أو تؤجله إلى غد، المحاسبة كالبحر غموض ساحر لا تعطيك إلا بقدر ما ترغب في المخاطر.
إذا سألت بحاراً عن البحر والسفينة يخبرك عن قصص الماضي، لكنه لن يجزم لك بشيء عن المستقبل وعن رحلته هذا اليوم، وهكذا المعلومات في القوائم المالية، تخبرك عن الماضي الذي يحمل في خطوطه صورة المستقبل. فأنت تقرأ من خلال أرقامها عما كان وتتوقع لم يكن، كيف سيكون. تقول لك القوائم المالية إنه في الماضي كانت هناك ودائع في البنوك بمليارات، ولكنها تخبرك في الوقت نفسه أنه "في المستقبل" ربما ستكون هناك المليارات أيضاً على شكل ودائع، ما لم تهب عواصف مالية وسياسية. تخبرك أيضاً أنه في الماضي كان إجمالي الأصول مليار، ومنها جاءت الأرباح بمليون، وربما في المستقبل ستكون الأصول موجودة كما هي وستكون الأرباح مليونا كما كانت من قبل، أو ستزيد قليلاً بقدر ما زادت به الأصول من الأرباح غير الموزعة. وقد تخبرك القوائم أنه كان لدى الشركة ديون قصيرة الأجل، وأن الشركة كانت قادرة على خلق النقد، ولهذا فإن الشركة في المستقبل "ربما" ستسدد ديونها من خلال نقودها وخلال سنة. إذا كنت تجيد الإبحار في القوائم المالية فحتماً ستجد عالماً من الكنوز المعرفية، في التقييم، والأسعار، في الاقتصاد، والسياسية، كلها تختزنها أرقاماً في قوائم، وملاحظات مرفقة. لكن من كل ما سبق اسأل الآن: ما أهم معلومة على الإطلاق تخبرك عنها القوائم المالية؟ لقد أشرت إليها في ثنايا الكلمات السابقة.
ليس لغزاً، بل قضية ضخمة وكبيرة، بل قواعد تنظيمية، واقتصادية، وسياسية وحماية ثروات أمة. إن أهم معلومة تقدمها القوائم المالية على الإطلاق، هي قدرة الشركة على الاستمرار لفترة مالية في المستقبل مماثلة لما شرحتها القوائم في الماضي. لكن لماذا هي أهم معلومة؟ لأن القرارات الاقتصادية كلها، بل الإنسانية جمعاء تتعلق بالمستقبل وليس بالماضي. عندما تشتري الأسهم في شركة ما وزعت أرباحاً قدرها خمسة ريالات مثلاً، فليس المهم لكل المستثمرين الحاليين أو المرتقبين ما وزعته الشركة بالأمس، بل همهم في هل ستفعل ذلك مرة أخرى في المستقبل، لذلك نهتم بالمقارنة بين الماضي القريب والبعيد لنعرف هل تتذبذب حالة الشركة وقدرتها على توزيع الأرباح؟، هل توزع مرة وتقف مرة؟، ذلك هو الذي يرسم لنا صورة المستقبل المنشودة. وهكذا هي الحال عندما تريد الالتحاق بوظيفة في هذه الشركة أو تلك، فإن قدرة الشركة على البقاء في المستقبل وقدرتها على دفع مستحقات العاملين هو ما يهمك، وهو الأمر نفسه إذا أردت أن تتعامل مع الشركة كعميل أو مورد.
لكن إذا كانت هذه أهم معلومة، وهي بكل هذه الخطورة والتأثير، فإننا نحتاج إلى مزيد من الثقة في القوائم المالية، وهنا يأتي دور مراجع الحسابات الخارجي. الذي يجب أن يدقق كل معلومة وكل رقم ويتأكد من أهم موضوع على الإطلاق وهو قدرة الشركة على البقاء مدة تعادل الفترة التي غطتها القوائم المالية. فإذا لم يكن متأكداً فعليه أن يخبر الجميع بذلك.
إذا لم تستمر الشركة (لأمور تنفيذية ومالية بحتة) كما زعمت الإدارة في معلوماتها، وكما أكد المراجع، فإن الإدارة والمراجع الخارجي مسؤولان بالتضامن عن كل الخسائر التي تعرض لها الجميع بسبب الخداع والغش في المعلومات المالية، يبقى الهم الأكبر لدينا في المملكة، مَن يقوم بالمطالبة بهذه الحقوق، ومَن يتولى الأمر برمته؟، لقد فشلت "شركة بيشة" في الاستمرار، ثم تبعها شركات كان آخرها "شركة المتكاملة"، وهناك في الطريق عدد غير معروف، فمن يتحمل هذه المسؤوليات وفشل القوائم المالية في أداء أكبر دور لها. مع الأسف الشديد، ما زلنا لا نعرف؟ وإذا كانت أهم معلومة غير جديرة بالثقة (نظرياً على الأقل) فهل تقدم القوائم المالية في المملكة معلومة يمكن الوثوق بها فعلاً؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي