نقاش هادئ حول الأمر الملكي

في إطار برنامج حماية المملكة لأبنائها من أخطار قد تعتريهم؛ صدر أخيرا القرار الملكي المدوي على الصعيدين الداخلي والدولي أخيرا؛ القاضي بمعاقبة المشاركين كائناً من كان في أعمال قتالية خارج المملكة، بأي صورة كانت، بعقوبات لا تقل عن السجن ثلاث سنوات ولا تزيد على 20 سنة، تزيد لتصبح ما بين خمس سنوات و30 سنة للعسكريين، هذا القرار يشمل أيضاً الانتماء للتيارات أو الجماعات - وما في حكمها - الدينية أو الفكرية المتطرفة أو المصنفة كمنظمات إرهابية داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، أو تأييدها أو تبني فكرها أو منهجها بأي صورة كانت، أو الإفصاح عن التعاطف معها بأي وسيلة كانت، أو تقديم أي من أشكال الدعم المادي أو المعنوي لها، أو التحريض على شيء من ذلك أو التشجيع عليه أو الترويج له بالقول أو الكتابة بأي طريقة.
ليس سراً أن البعض يرى هذا القرار ضرورة قطعية، ومن دونه لا يستقيم حال الدولة، بينما يرى فيه البعض الآخر غير ذلك، وفي اعتقادي أن نقاش القرار والتعليق حوله في الصحف وفي مواقع التواصل الاجتماعي في الغالب كان تعميماً يشوبه التطرف من الجانبين.
حتى لا نقرأ القرار مستقلاً عن المنظومة السياسية والاجتماعية فيجب أن نقر بأن المملكة قدمت العديد من المبادرات في مجال صياغة الفكر والعقل، كما قدمت مبادرات أخرى بهدف تخفيف حدة التعصب والتطرف بجميع أشكاله، خاصة التطرف الفكري والتعصب المذهبي، من أبرز مبادرات المملكة على الصعيد الدولي كان تأسيس مركز الحوار بين الأديان، بهدف صياغة جسور نحو السلام العالمي وتجسير الهوة والتعصب لبناء مجتمع دولي يقوم على أسس من المودة والاحترام المتبادل .
وعلى الصعيد المحلي قدمت المملكة مبادرات عميقة أخرى كان أبرزها تأسيس مركز الحوار الوطني وما قام به من جهود ثمينة وقيمة أنتجت ثماراً محسوسة وملموسة في ترسيخ ثقافة الحوار، هذا الترسيخ لم يكن بين المتوافقين بالطبع، لكنها ركزت على أهمية الحوار بين المختلفين والمتضادين فكان الحوار بين الشباب والكبار، وبين التيارات المختلفة مذهبياً وفكرياً وأيديولوجيا، نجح المركز غالباً في جمع المتنافرين على طاولة واحدة.
أيضاً قدمت المملكة نموذجاً آخر في ثقافة الحوار مع المختلف معهم من أبناء الوطن، فأسست برنامجاً متخصصاً في المناصحة والحوار، يقوم على أسس من الشريعة وحب الوطن والعلاقة بين الحاكم والمحكوم والعالم وطالب العلم.
هذه المبادرات لم تأت من فراغ، لكنها كانت نتاج واقع وشعور بالحاجة الماسة إلى مثل هذه الثورة لتهذيب الاختلاف الفكري والتعصب المذهبي والتنافر العقدي، الذي كان أحد أسبابه الرقعة الكبيرة التي تحتلها المملكة، لكن كان السبب الأهم في نظري هو حداثة الدولة المدنية وثقافة المجتمع الذي ما زال يتعلم أسس الحوار وفنون الاختلاف.
حديثي هنا اليوم ليس لمناقشة القرار، وليس لتحديد موقف لأكون مع أو ضد أي من الطرفين، لكن الذي يهمني هنا هو آليات التطبيق التي ستدور رحاها على المجتمع ككل، خاصة أن القرار الأخير يتعامل مع واقعين مختلفين، أحدهما واضح ويمكن تحديده بسهولة وأدلة الإثبات والنفي واضحة ولا يمكن أن يتم الخطأ فيها إلا في أضيق الحدود؛ وهو الجزء الأول من القرار الذي يجرم المشاركة في القتال خارج المملكة.
الجزء الثاني هو الجزء الأصعب من المعادلة، وهو ما يختص بالانتماء للتيارات أو الجماعات الدينية أو الفكرية المتطرفة أو المصنفة كمنظمات إرهابية داخلياً أو إقليمياً أو دولياً؛ هذه الصعوبة لها جوانب عدة: الجانب الأول؛ أن هذه الجماعات في بعض البلدان حاكمة مثل الشيعة في إيران، بينما الجماعة نفسها تعد جماعة مرفوضة ومصنفة في ماليزيا، كما أن حزب البعث كان حاكماً في العراق وسورية في وقت من الأوقات ويُجرم في بلدان أخرى في الوقت نفسه .. وهل يغيب عن تفكيرنا كيف يصنف البعض السلفية في بلادنا؟
الجانب الثاني؛ أن هذه الجماعات نفسها منقسمة على بعضها وليست في جميع الأحوال ملة واحدة، فعلى سبيل المثال هناك شيعي ليبرالي وهناك شيعي يميني متطرف وهناك شيعي متطرف يدعو إلى العنف والقتل! وعلى السياق نفسه هناك علماني معتدل وهناك علماني متطرف وهناك علماني يهتك ستر من سواه، فكيف سيتم تصنيف كل جماعة وعلى أي أساس؟ كما أن صفة التطرف في الجماعة أو الفكر لا يمكن تحديدها بدقة، فالتطرف لدى جهة ما، يعتبر وسطية لدى المنتمين للجماعة ذاتها.
الجانب الثالث؛ أن إثبات الانتماء للجماعة أو الفكر يصعب جداً؛ فهذه الجماعات لا تمنحك بطاقة هوية أو جواز سفر لتثبت به هذا الانتماء، وليس لديها سجل للعضوية يمكن فيه تأكيد الانتماء، والأصعب من الانتماء هو نفي هذه التهمة، إلا إذا كانت القاعدة في هذه القضية ستكون وفق: "البيّنة على من ادعى واليمين على من أنكر".
الجانب الرابع؛ أن موضوع التأييد أو التعاطف قضية نسبية لا يمكن الحكم فيها، خاصة عند وجود نزاع أو حرب بين فرقتين من هذه الفرق، فغالباً ما يكون هناك أسوأ الشرين وأخف الضررين، الذي لا يمكن فيه الحياد، فكيف سيصنف من يبدي رأياً حينئذٍ!
الجانب الخامس؛ أن التشديد في حجب الأفكار والنقاش حولها، والحوار معها لن يمنعها، فالعالم لم يعد كما كان جزراً متفرقة، لكنه تحول إلى قرية صغيرة، وبالتالي فإن مثل هذا التجريم قد يحول نقاش تلك الأفكار إلى السر بدل العلن، وقد يحول ذلك التعاطف إلى الغرف المظلمة بدل الفضاءات المفتوحة.
أخيراً - في رأيي - أن القرار الملكي خاصة في الجزء الثاني منه يحتاج إلى تفسير قانوني واضح يمكن معه تحديد الجريمة بشكل واضح، وكيفية إثبات الجريمة ونفيها، من دون خوف من محقق، أو تجريم لمحام يدافع عن مظلوم، وبتحديد واضح للصلاحيات، وبذلك يحكمنا قانون عادل يطبق على الجميع كائناً من كان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي