الرسالة أولا .. جوهر الاتصال وركيزة القيمة

في عالم الاتصال الذي يضج بالمعلومات والوسائط والمنصات المتعددة، غالبًا ما ننشغل بالوسائل قبل الغايات، ونركز على المنصة، والتوقيت، والأدوات، والجمهور، وقد ننسى الأساس الذي يبنى عليه كل هذا؛ وهو "الرسالة".

والرسالة ليست مجرد كلمات منمقة، بل هي النواة التي يدور حولها كل جهد اتصالي، وهي التي تحدد إن كانت الفكرة ستصل بوضوح، أم تتلاشى في ضباب النسيان.

حين بدأتُ الكتابة عن هذا المفهوم، لم أبحث عن أفكار معقدة، بل عدتُ إلى المبدأ الأساسي في كل مهنة اتصالية.. السؤال الذي يجب أن يُطرح قبل صناعة أي محتوى، أو بيان صحفي، أو ظهور إعلامي، أو اجتماع إستراتيجي:

"ما هي رسالتنا؟"

هذا المقال لا يغوص في تعقيدات النظريات، ولكنه يعود إلى نقطة الانطلاق الجوهرية لكل مهام العلاقات العامة: التأكد من أن لدينا رسالة ذات قيمة، وجديرة بأن تُقال.

فالرسالة ليست مجرد صيغ كلامية أو سردية مصممة مسبقًا، بل هي التعبير الصادق عن جوهر المؤسسة، وصوتها الحقيقي الذي يبرز ما تهدف إليه، لا ما يُتوقع منها أن تقوله.

وقد لا تكون الرسالة واضحة تماماً في كل الأحوال، ولكن مسؤول الاتصال المحترف لا ينتظر أن تُملَى عليه، بل هو من ينقب عنها ببراعة، ويستخلصها بدقة، ويختبرها بعناية، ويتأكد من أصالتها وصدقها، ثم يبني عليها كل عناصر الاتصال الأخرى: المحتوى، والخطاب، والخطة الشاملة.

الرسالة ببساطة هي التي تساعد على تحديد الغاية، وتُسهم في بناء جسر تواصل فعّال مع الجمهور المستهدف. فإذا كان المطلوب هو تقديم مضمون عالي الجودة يصل بكفاءة إلى هذا الجمهور، فإن ذلك لا يتحقق إلا عبر فهم عميق وواضح للرسالة، يُبنى عليه محتوى متماسك يلبي احتياجات الجمهور، ويخاطب اهتماماته، ويُحدث الأثر المنشود.

غير أن هذا الأثر لا يقتصر على الجوانب الاتصالية أو التفاعلية فقط، بل يمتد إلى أبعاد إستراتيجية واقتصادية تمس جوهر المؤسسة ومكانتها في السوق.

ففي عالم الأعمال اليوم، لم تعد الرسالة الاتصالية مجرّد وسيلة للتأثير أو تحسين الصورة، بل أصبحت أصلًا غير ملموس ذا أثر اقتصادي مباشر.

فالرسالة القوية والمبنية على فهم عميق لهوية المؤسسة وسياقها تسهم في بناء الثقة، وتعزيز الولاء، وتخفيض تكلفة الإقناع، وتسريع قرارات الشراء أو الشراكة أو الدعم.

بل إن المؤسسات التي تتقن صياغة رسائلها الأصيلة، المتسقة مع رؤيتها وقيمها، تُحقق ميزة تنافسية مستدامة ترفع من قيمتها السوقية، وتُسهم في نموها طويل الأمد.

وهكذا، فإن مسؤول الاتصال لا يؤدي فقط دورًا فنياً أو بلاغياً، بل يُسهم في بناء القيمة الاقتصادية للمؤسسة، ويحوّل الرسالة من محتوى يُقدَّم، إلى أداة استراتيجية تُوظف لخدمة التوسع والتأثير.

أعلم أن زملائي في المهنة يدركون هذا المبدأ جيداً. ولكن حديثي اليوم موجه أيضاً إلى الأجيال الجديدة، الذين سيحملون لواء التواصل المؤسسي في المستقبل، عليهم أن يدركوا أن أعظم ما يمكن لمسؤول الاتصال أن يقدمه ليس مجرد "تمرير" الرسائل، بل التأكد من أنها حقيقية، وموثوقة، وجديرة بالإعلام عنها، وقادرة على التأثير في محيطها.

باختصار.. لا يجدر بمسؤول الاتصال المحترف أن يقول ما لا يعرفه، أو يكتب ما لا يؤمن به، أو يدافع عن شيء لا يثق فيه، أو يقدّم رسالة زائفة.. بل أن يكون شريكاً محترفاً في بناء رسالة قيّمة، ورافعة إستراتيجية لنمو المؤسسات التي يعمل معها.

متخصص في العلاقات العامة والاتصال

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي