الاقتصادات الناشئة في «عتمة أزمة»
المشكلة ليست صنيعة الولايات المتحدة فقط. هي مجموعة عوامل أدخلت الاقتصادات الناشئة في "عتمة أزمة". صحيح أن خفض مشتريات المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الشهرية من السندات، من 85 ملياراً إلى 65 مليار دولار، أربك الأسواق الناشئة، لكن الصحيح أيضاً، أن هذه الأسواق لا تزال في وضعية الوصول إلى النضج، الأمر الذي يجعل كثيراً من التطورات أدوات مؤثرة سلباً في أدائها. هناك تباطؤ في النمو في الأسواق الناشئة، ظهر على السطح حتى قبل أن يُقدم"الفيدرالي الأمريكي"، على ما يمكن تسميته "خفض وإبطاء سياسة التسيير الكمي". وكان تباطؤ الاقتصاد الصيني عاملاً ضاغطاً مباشراً، ليس فقط على الاقتصادات الناشئة، بل أيضاً على الاقتصاد العالمي ككل. فهذه الاقتصادات ارتبطت بحراك عالمي، استفادت من عوائده، وهي بالتالي معرضة للتأثر المباشر من الحالة المعاكسة له.
إنها الدورة الطبيعية للحراك الاقتصادي العالمي وروابطه، وكل شيء مطروح على الساحة، من تراجع للنمو، ومن "الإصابات" شبه الفادحة لعملات الدول الناشئة، دون استبعاد الأوضاع السياسية المتوترة في بعض هذه الدول، فضلاً عن "المتعلقات" المباشرة وغير المباشرة، لأزمة الديون الأوروبية، رغم أن هذه الأخيرة شهدت في الأسابيع الماضية تحسناً ملحوظاً، وإن كان لا يزال يحتاج إلى فترة للدخول في الحالة الآمنة. إن التحفيز القادم من الخارج (وتحديداً من الولايات المتحدة) يفاقم المتاعب بلا شك، لكن هناك الكثير من الأمور التي ينبغي للأسواق الناشئة أن تأخذها في الحسبان، بما في ذلك، تطوير ما يمكن اعتباره "التحفيز المحلي والإقليمي". والاقتصادات التي تتمكن من المرور السلس بالمراحل المتقلبة للاقتصاد العالمي، هي تلك التي تخرج من كل مرحلة، بأقل الأضرار الممكنة. لكن يبدو، أن ترابط السياسات الاقتصادية، ما زال العامل السائد والأقوى في الأسواق الناشئة.
لم تكن خطوة "الفيدرالي الأمريكي" مفاجئة. والأهم أن هذا الأخير ماض في سياسته الجديدة، طالما أن الانتعاش الاقتصادي المحلي يسير بخطوات ثابتة ومتماسكة، لم تكن كذلك حتى وقت قريب. بل هناك مؤشرات (لم تكتمل بعد) تدل على أن الولايات المتحدة تتجه إلى إلغاء استراتيجية التسيير الكمي، متى سنحت الفرصة. وهذا وحده يمثل دافعاً للاقتصادات الناشئة، لإحداث تغييرات تفرضها المستجدات، خصوصاً عندما يكون جزءاً من القرار الاقتصادي المحلي غير محلي. في الأيام الماضية، انعكست السياسة الاقتصادية الأمريكية بصورة مباشرة، حتى على بورصة اليابان، التي تعد في النهاية أكثر تماسكاً من بورصات أغلبية الدول الأخرى. والخوف على أسهم الأسواق الناشئة، يقابله اطمئنان ما على الأسهم الأمريكية. فالذي يعتمد على التدفقات المالية الخارجية، عليه أن يحسب حساب تراجعها في أي وقت، ولا سيما في الوقت الراهن.
قد يكون تدخل البنوك المركزية في البلدان الناشئة مفيداً لحماية عملاتها، لكنه لن يكون كذلك على المدى البعيد. فأي رفع للفائدة سيؤثر بصورة مباشرة في مستوى النمو. ففي بلد كتركيا، لم يكن رئيس وزرائها نفسه مسروراً من خطوة البنك المركزي الأخيرة بهذا الصدد في بلاده. ولعل أهم شيء فيما يحدث حالياً على صعيد الأسواق الناشئة، أن يعترف القائمون عليها بأن أوضاعها هشة. وتكفي الإشارة هنا إلى أن أكثر من 12 مليار دولار خرجت من هذه الأسواق في غضون أسابيع، في حين أن هذا الحجم من الأموال كان يخرج وينتقل في غضون عام كامل! الهند، تركيا، جنوب إفريقيا، البرازيل، الأرجنتين، روسيا.. وغيرها من البلدان ذات الأوضاع الاقتصادية المشابهة، هي الآن في مرحلة إعادة النظر في استراتيجياتها الاقتصادية. فكلما قلّصت انكشافها، كسبت ضمانات مطلوبة، وتقدمت خطوة أخرى إلى الأمام على صعيد التمكين.
المشكلة الراهنة حالياً تكمن بصورة كبيرة في معادلة الحفاظ على قيمة العملات في الأسواق الناشئة. وإذا لم تتمكن البنوك المركزية من تنفيذ سياسة تحفظ هذه العملات، وفي الوقت نفسه تنشر نوعاً من الطمأنينة في الحراك الاستثماري، فإنها ستدخل في دوامة لن تخرج منها في وقت قصير. إن ما يحدث الآن في الأسواق الناشئة، نوع من حالة إعادة التشكيل، لكن بدوافع خارجية لا محلية. وهي أيضاً فرصة لتكريس اقتصادات باتت مؤثرة، لكنها تتأثر.