تأجيل الخروج من الأزمة

ما زال الحديث عن الأزمة العالمية الاقتصادية وعدم قدرة اقتصادات الغرب على النهوض من كبوتها يتستر بالتحسينات الطفيفة في بعض المؤشرات، ولعل مما أسهم في ذلك هو استمرار الإصرار على إحالة العلة إلى أسباب مالية.. وبالجملة لخلل في الأنظمة والقوانين ذات العلاقة التي كانت تحكم الغرب بشكل عام وأمريكا بالذات خلال العقود الماضية حينما تم الإفراط، ــــ منذ فترة ريجن وتاتشر ــــ بالاعتماد على قدرة آلية السوق على تدبر الأمر.
هذا الاحتراس في مغبة الوقوف عند دور تلك الأنظمة.. إنما يتجاوزها إلى علة أعمق تتصل بالسلوك السياسي الذي استمرأ الرهان على هذه السياسة المالية لإيهام الجمهور بالوفرة وتحسيسه بمناخ متعاظم للحرية. هذا يعني أن هناك تواطؤا قد تم بالأساس بين الساسة وأصحاب المال والمصارف والشركات الكبرى لأغراض انتخابية بالدرجة الأولى تناغمت معه مصالح أهل المال، على أساس أن الزمن كفيل بتعديل المعايير مع تنامي القوة الشرائية والإقبال على الائتمان والقروض والمشتقات المصرفية الأخرى.. غير أنه رهان بدت سوأته واضحة منذ توحش الخصخصة في عهد تاتشر مع إضراب عمال بريطانيا الشهير، حتى قبل أن تطل الأزمة بنذرها.
لقد أدى هذا السلوك إلى التخفف من تبعات التركيز على القطاعات الإنتاجية لصالح صناعة المال من المال وإلى إحالة التكاليف في الخدمات الاجتماعية الأساسية إلى القطاع الخاص. فضلا عن اندفاع الدول الغربية إلى إزاحة بعض قطاعاتها الإنتاجية من المراكز إلى الأطراف.. أي من داخل دولها إلى دول تتوافر فيها الأيدي العاملة الرخيصة وانعدام الشروط البيئية والضرائب بل وحقوق الإنسان، كما أشار إلى ذلك عدد من الدارسين.
ومع أن هذا الاتجاه أسفر، فعلا, عن مكاسب هائلة للقطاع الخاص ولأصحاب تلك المصانع والشركات فأدار الجشع الرؤوس للبقاء هناك، إلا أنه ترتب عليه تدهور في الاقتصاد الفعلي جراء تدهور عجلة الإنتاج في الداخل ما أدى إلى تدني الفرص الوظيفية وارتفاع نسب البطالة ومعها تدني المهارات وهجرتها وانعكس ذلك حتى على التعليم نفسه ما أفزع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون وجعله يطلق صيحته بالحاجة الملحة إلى تطوير التعليم وإلا فإنهم سوف يخسرون المنافسة مع القوى الناهضة اقتصادياً وعلمياً، خصوصا الصين.
الميل إلى الاهتمام بالمحيط الهادئ، حتى على حساب الحلفاء الأوروبيين لفك خناق الأزمة أمريكيا سوف يعاظم أيضا الخطأ السياسي بدلاً من أن يسهم في حل الأزمة أو تخفيفها، ولا سيما أن مطبخ العولمة "منظمة التجارة العالمية" تعصف به رياح الحمايات والدعم إلى جانب أن سلوك العولمة نفسه هو مما لا يمكن التنبؤ بمساره أو بمناطق نفوذه على وجه الدقة. وليست قوة الدول الناشئة سوى دليل على أن الانحياز في توجيه الاهتمام لجهة على حساب العالم إنما سيعني تحديا مقابلا سيجر معه تبعات تفاقم الأزمة عوضا عن أن تدفع بها للخروج من عنق زجاجتها.
هناك من يعزو هذا إلى أن التفكير بعقلية الحرب الباردة "اقتصاديا" في زمن تعدد الأقطاب ما زال هو المهيمن على صناعة القرار، خصوصاً في أمريكا.. حتى لو كانت الألفاظ لا تقول ذلك وتزعم عكسه.. وبالتالي لن يتغير موقع الأزمة من مراوحتها مكانها ربما ما لم تتحمل أمريكا دورا سياسيا مسؤولا عوضا عن ميل للانسحاب .. بل لعل هذا هو ما حدا بأوروبا بقيادة ألمانيا وفرنسا إلى ترتيب بيتها وألا تخطو في الطريق على هدى أمريكا، فثمة مواقف سياسية تباينت مع مواقف أمريكا، وإن كان بشيء من الحذر والتردد أملاها الاستياء الشعبي من ناحية وتصرف أمريكا بشيء من اللامبالاة تجاه الأزمة في البلدان الأوروبية من ناحية أخرى، وما تصويت البرلمان البريطاني بعدم الذهاب للحرب ضد الأسد سوى أحد الدلائل على ذلك لكنه دليل لا يلغي عدم إمكانية التنبؤ بسلوك العولمة بجانب انعكاسات الأداء الراهن للسياسة الخارجية الأمريكية، وبالتالي قد يعني هذا تأجيل الخروج من الأزمة إلى حين حدوث تغير نوعي في السياسة الأمريكية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي