إقرار الذمة المالية للمسؤول .. بداية النزاهة
إذا كان المسؤول (أي مسؤول) لا يخفي شيئاً في الحاضر، ولن يخفي "أشياء" في المستقبل، فليس هناك سبب لتوجسه أو تهربه من إقرار الذمة المالية. وكلما ارتفع مستوى المنصب الذي عُيّن فيه أو وصل إليه، كان إقرار ذمته المالية واجباً. والحق أن الإقرار الطوعي، ولا سيما في الدول التي لا تعتمد قانون الإقرار، يضيف مزيداً من الهيبة لصاحب هذا المنصب أو ذاك، ويقطع الطريق نهائياً، أمام من يشكك، وفي وجه من يطرح التساؤلات المحقة والمتجنية، والاتهامات المختلقة. كما أن ذلك، يعفي المسؤول من التبرير أو الدفاع. هناك مسؤولون كانوا يقضون وقتاً في صد الاتهامات، أكثر من الوقت اللازم لإدارة شؤون وزاراتهم ومؤسساتهم! بعضهم وقع، من فرط استنفاعه الشخصي من منصبه، والبعض الآخر وجد أن مزايا المنصب كانت أقل من منغصاته الناجمة عن التشكيك التلقائي في نزاهته، حتى لو كان نزيهاً بالفعل.
الدول الراشدة اختصرت الطريق منذ البداية، وأقرت سلسلة من القوانين الخاصة بالنزاهة وإقرار الذمة، التي تشرف عليها لجان برلمانية متخصصة. ورغم ذلك، لا تأتي حكومة وتمضي فيها، إلا وتظهر فضيحة هنا وأخرى هناك. وعلينا فقط أن نتخيل حجم الفساد بهذا الصدد، في البلدان التي لا تقر مثل هذه القوانين، ولا تفرض على المسؤول إقرار ذمته. في بريطانيا (على سبيل المثال) التي شهدت الكثير من الفضائح (بصرف النظر عن مستواها. بعضها يتعلق بأجرة "جنايني")، تجبر المسؤولين الذين يقومون بزيارات خارجية على تسليم الهدايا التي يتلقونها التي تزيد قيمتها على 100 دولار تقريباً، إلى جهة حكومية، تقوم في نهاية كل عام، ببيعها في مزاد لمصلحة الخزينة العامة. بالطبع لا تُطرح الهدايا التي تكتسب الصفة التاريخية والتراثية، وترتبط بالعلاقات مع الدول الأخرى في المزادات، وتبقى من الممتلكات العامة.
وقبل أن يصل المسؤول في البلدان الراشدة إلى منصبه الكبير، يقدم جردة بأملاكه، كما أنه يجدد هذه الجردة، كلما استحق الأمر ذلك. فلا غرابة أن نرى حجم الفساد في هذه البلدان في أدنى المستويات، بينما يصل إجمالي الأموال الناجمة عن الرشا وتمرير الصفقات فقط، في الدول النامية إلى 40 مليار دولار سنوياً، حسب منظمة النزاهة العالمية. إن إقرار الذمة المالية لا يحمي المال العام فحسب، بل يمنح السلطات المزيد من المصداقية التي تحتاج إليها، خصوصاً في عالم مضطرب ومتقلب. فالنزاهة تبقى سلاحاً قوياً غير دموي في أيدي أولئك الذين يصلون إلى مناصب لهدف واحد، وهو حماية المال العام، وصيانة ثروات البلاد، بحراك تنموي وتطويري عالي الجودة.
لا يمكن القضاء على الفساد نهائياً في أي مكان في هذا العالم. فهو موجود طالما وجد الجشع، وطالما ظلت الأخلاق "موضوع آخر"، لا المسألة الرئيسة. وكل القوانين التي وضعت بهذا الخصوص، هدفت أساساً للتقليل من إجمالي الفساد، والتربح من المنصب العام، وسرقة المال العام، واستغلال النفوذ لأهداف خاصة.. بل شخصية. وهذه القضية (كغيرها من القضايا الأخرى) ينبغي أن تمر بالمراحل الطبيعية لها، لتصل إلى النضج المطلوب. ستواجهها المطبات والعراقيل، وستظهر الفضائح بلا شك، غير أن هذا كله يدخل في السياق المنطقي، نحو أفضل حالة ممكنة من النزاهة والشفافية. إن إقرار الذمة المالية لأصحاب المناصب، تصنع حالة عامة، لأن معاييرها سرعان ما تسري على مختلف المستويات والمواقع والقطاعات والساحات، فضلاً عن أنها تنشر ثقافة مدنية تستند إلى تشريعات وضعية. غير أن هذا لا يتحقق إلا بوجود أدوات رقابية عالية الدقة.