الوطن أولاً .. ثم الأسرة .. فالقبيلة
قال الأمير سلمان بن عبد العزيز ولي العهد وهو يستقبل البعثات الدبلوماسية السعودية في مكتبه بقصر المعذر "من الأهمية أن يوجه الإنسان البر لأسرته وبلدته وقبيلته، لكن على ألا يكون ذلك على حساب وطنه".
والواقع أن ولي العهد قال الكلام المفيد والمهم في الوقت المناسب، لأن رائحة القبلية والطائفية والعنصرية نشمها في كل ما يسمى ثورات الربيع العربي التي اندلعت في ست دول عربية وبثت الفتن بين الشعب العربي الواحد، ودمرت أركان هذا العالم الذي كان يتطلع إلى بناء كيان عربي يتكامل في كل مجالات الحياة.
إننا حينما نأتي على ذكر القبيلة.. إنما ندعو إلى ممارسة الكراهية ضد قبيلة أخرى، أو مجموعة من القبائل التي تتنافس مع قبيلتنا؛ وحينما نأتي على ذكر الوطن؛ فإننا ندعو إلى حب الآخر والآخرين.
أكثر من ثلاثة آلاف موقع إلكتروني يدعو إلى الخطاب القبلي على الشبكة العنكبوتية، وكل هذه الآلاف من المواقع تتغنى بالقبيلة على حساب نظرية الوطن الواحد.
وتقول إحصائيات غير رسمية إن مرتادي هذه المواقع يتجاوزون الآلاف يومياً، بمعنى أن هذه المواقع "وهذه المواقع بالذات" التي تنتشر على الشبكة العالمية.. تعتبر من أكثر المواقع الجاذبة للجمهور، خاصة ممن هم في سن الشباب، إلى درجة أن معدلاتها تفوق معدلات المواقع الرياضية ومواقع السينما والمسلسلات.
والمؤسف أن القبيلة باتت تتمدد في شرايين المجتمع السعودي المعاصر وتأخذ مكانة متقدمة من سلوكه اليومي، فبعد أن نشطت في الزواج من الأقارب اتسعت في الوظائف والأرزاق، وإذا أردنا أن نستكشف القبيلة في الوظائف والأرزاق فإنه من السهولة بمكان أن نجد بعض من تقلدوا الوظائف يعينون الأقارب والأصدقاء في الوظائف التي تقع في دوائر سلطاتهم وهذا ممنوع في الفكر الإداري المعاصر وينعتونه بـ "النوبوتزمية"، ومع الأسف فاحت رائحة "النوبوتزمية" في الشركات والمؤسسات في هذه الأيام، وانتشر الحقد والتربص في أكثر من مستوى وظيفي، وتسبب هذا التواطؤ العنصري في انخفاض ملحوظ في إنتاجية الموظف السعودي مقارنة بنظيره في المجتمعات المتقدمة أو الناشئة.
ويفسر القبليون الأحاديث النبوية الشريفة أن الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ يفاخر بالقبيلة والبيت، وهذا غير صحيح، فالرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ كان يفاخر بمنزلة النبوة في شخصه، يقول ــــ صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه"، ويقول الحق ـــ سبحانه وتعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون".
وإذا كان صحيحاً أن الرسول كان يفاخر بعرقه العربي الأصيل، إلاّ أنه كان يقدم الدين على العرق، ويفتخر بالعرق من خلال الدين، أي يفتخر بالعربية؛ لأنها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، فالقرآن هو الأصل واللغة العربية هي الفرع.
والمؤسف أن الانزلاق إلى القبيلة بدأ من محطات الشعر الشعبي، حيث استخدم الشعر الشعبي في تمجيد الذات ومدح القبيلة مقابل ذم قبيلة أخرى، وغمز قبيلة ثالثة على حساب كل القبائل، وحتى تلتهب المشاعر أكثر وتفور النفوس على بعضها بعضا أغدقت الملايين من الريالات على الفائزين المادحين للقبيلة لتشتعل القرائح وتنزف شعراً يفاخر بالقبيلة على حساب الوطن الذي يعتبر حبه من الإيمان.
وهكذا عوضاً عن أن يحمل الشعر رسالة وطنية تدافع عن أمة الإسلام، فإذا به يروج للفرقة والتشرذم والانسلاخ من المجتمع الإسلامي الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
وهناك الكثير من المحاولات التي نعرفها والتي لا نعرفها تؤكد أن الخطر يهدد بالفعل الوحدة الوطنية، ولذلك نستطيع القول إن هذا الكم الهائل من الفضائيات القبلية يجب معالجتها وفضها. لأن الاهتمام بالقبيلة في جميع شرائح المجتمع السعودي بات ـــ مع الأسف ـــ الخيار الأول، أما الاهتمام بالوحدة الوطنية فأخذ يتراجع ليصبح الخيار الثاني، وهذه مشكلة كبرى في الهوية السياسية.
وفي موضوع ذي صلة قص علي أحد الأصدقاء قصة قال فيها: إنه حضر مجلسا ضم شباباً يتفاخرون بالقبائل، فقال لهم إنه من أعرق وأفضل القبائل في الوجود، فاستغرب الجميع وتدلت أعناقهم نحوه راغبين أن يصرح باسم قبيلته، ولكنه "بحلق" فيهم بعينيه النافرتين، ثم كرر كلامه بنبرة حادة وجادة، وقال إنه يتحدر من أنقى وأطهر قبيلة على الأرض، فاتجهت الرؤوس نحوه مرة أخرى وهي تشتاق إلى سماع هذه القبيلة الأطهر والأنقى، وتساءل الجميع ما اسم هذه القبيلة؟!
فقال بكل ثقة إنها قبيلة كل القبائل، اشرأبت الرؤوس نحوه تتحداه بأن يذكر اسم "قبيلته" قبيلة كل القبائل، فقال: إنه ينتمي إلى قبيلة آدم، ثم قال بسرعة قبل أن يستمع إلى ما لا يسر من الكلمات واللكمات، إن كل إنسان في المملكة وكل إنسان فوق كوكب الأرض يتحدر من القبيلة الأم قبيلة آدم، وآدم هو رئيس وأب لكل القبائل، وما دمنا كذلك فكلنا لآدم وآدم من تراب، إن أكرمنا عند الله أتقانا، وصمت الجميع، وبايع الجميع كلام صديقي وأرجو أن نبايع جميعا هذا الوطن الغالي الحبيب بالتقوى والعمل والإنتاج والكفاءة وزيادة الإنتاجية والمشاركة الفعالة في بناء صروح الحضارة الإنسانية.