الصورة المرآة
يحكى أن أول من صور نفسه هو روبرت كورنليس الفوتوغرافي الأمريكي، قام بذلك في عام 1839م بخطوات بطيئة جدا تمكن من خلالها بصعوبة أن يلتقط صورة لنفسه! وفي عام 1900م تمكنت إيرلي ادوراديان أن تلتقط صورة لنفسها لكن عن طريق المرآة، أما في عام 1914م فقد صورت الدوقة الروسية أناتاشيا نيكوليفنا نفسها حين كانت في الثالثة عشرة من عمرها لتكون أول مراهقة تصور نفسها باستخدام المرآة وكاميرا كوداك بهدف إرسال الصورة لصديقها.
استعراض تاريخي يدل على أن تصوير الذات فعل نادر جدا، ندرته ليست فقط كممارسة بل كفكرة وكحاجة .. أما في عام 2013م فقد أدرج قاموس أكسفورد كلمة جديدة لمعجمه وهي selfie
وتعني: التقاطك الصورة لنفسك بنفسك باستخدام كاميرا رقمية أو هاتف، وعادة يرتبط هذا الالتقاط بمشاركة الصورة في إحدى الشبكات الاجتماعية. وكلما تصفحت انستجرام ستجد ما لا يعد من البشر ينشرون صورا تحملهم وهم حاملون هواتفهم! تزايد هذه الظاهرة كانت سببا في زيادة استخدام المصطلح الذي أصبح معتمدا في قاموس أكسفورد دون أن أجد أي محاولة لتعريبه. وكانت بداية ظهور المصطلح في أستراليا في عام 2002م في أحد المنتديات آنذاك.
يقول باحثون في علم الاجتماع إن البنات والنساء الصغيرات هن الأكثر شيوعا في تصوير أنفسهن، ويتتبع المهتمون أن أول ظهور لهذه الظاهرة كان بندرة مع أول شبكة اجتماعية "ماي سبيس" ثم تزايد مع فترة وهج الفيسبوك من عام 2006م حتى عام 2009م بعدها كان ظهور موقع الصور "فلكر" وكانت المراهقات الأكثر تصويرا لأنفسهن من خلال فلكر، في عام 2010م ظهرت خاصية الكاميرا المرآة في آي فون ٤، التي يقال إنها مأخوذة كفكرة من أجهزة جوالات كورية. وبعد انتشار كاميرا الآيفون لم يعد المصور في حاجة إلى الوقوف أمام المرآة ليصور نفسه كالسابق، وأصبح الآيفون يتيح الصورة المرآة. ومنذ ذلك الحين والصور الذاتية في تدفق لا متناه على الإنستجرام.
بالنسبة لكثيرات هي مجرد لقطة متاحة للمشاركة مع المجتمع الافتراضي ويمكن أن تعدلها بميزات عديدة تحت التحكم لتختار بذلك الطريقة الأفضل التي تقدم نفسها من خلالها حتى لو اضطرت إلى التزييف أحيانا! فبدت في الصورة بعيدة جدا عن الواقع.
ثورة اتصالية جميلة أن يتمكن الإنسان الحالي من التقاط صورة لنفسه ببساطة وسرعة تمكنه من توثيق لحظات معينة يمر بها ويرغب في تذكرها باستمرار، أو ربما يرغب في تأمل نفسه من خلالها فتقوم الصورة مقام المرآة فعلا، لأن المرآة نوع من الاتصال مع الذات التي تظهر فيها نفسك كما هي! لكن هل هي ثورة تسهم فعلا في أن يكون الإنسان أكثر اتصالا مع نفسه؟ أم هي تبعده عن نفسه وتدخله في متاهة عنكبوتية عالمية يتصل بها، وكلما زاد اتصاله بها زاد انفصاله عن ذاته؟
الهوس بالتصوير كصناعة ومتابعة يومية يجعل الحياة مكشوفة ومبتذلة أمام غير المهووس بالفرجة، ويحرم من التركيز على لحظات الحياة الأجمل ومن أن نعيش لحظتنا (الحقيقية) حين ننفرد بها مع من حولنا في الواقع.
أليست الحياة أقصر من أن أنقل واقعها بالكامل إلى عالم الافتراض؟
ودمتم "حقيقيين".