فساد القيم.. تربية أم أنظمة؟
إنها سلسلة من العوامل التي تؤدي إلى فساد القيم وتعمقه، ولا سيما عندما لا تكون لدى المجتمع القدرة على إنتاج عوامل مضادة، أو أن تكون هذه "المضادة" من الضعف بحيث لا يتنبه إليها أحد وبلا تأثير، أو أن يكون مَن يملك مفاتيح القرار العام مستفيداً من فساد القيم. وغالباً ما يكون مصيره مرتبطاً بالمدى الذي يصل إليه الفساد. فكلما زاد تمكن من فرض السيطرة، عن طريق إدخال المزيد من الأطراف إلى دائرة القيم الفاسدة. ولفساد القيم مستويات، كأن يكون مرتفعاً هنا وأقل ارتفاعاً هناك. غير أنه في النهاية يبقى التهديد الأكبر، ويظل أداة حاضرة للخراب والفوضى، ليس فقط في مرحلته، بل في المراحل المقبلة. إن نتاج فساد القيم مستدام لأمد طويل، بصرف النظر عن مستوى نظافة أو قذارة النظام المقبل.
لا يمكن تحميل عامل واحد مسؤولية فساد القيم. هو نتاج التربية والأنظمة والحالات الآنية التي يمر بها المجتمع. وإذا كانت البيئة حاضنة له، فستكون المصائب أكبر وعلاجها في المرحلة المقبلة صعباً. لا شك في أن الفرد الذي نشأ في ظل قيم تربوية عالية أخلاقياً، يواجه مصاعب كثيرة في مثل هذه البيئة المروعة، وبعض هذه المصاعب التي ينظر إليها الفرد الآخر المقابل على أنها فرص، تكون في بعض الأحيان أقوى من أي مناعة أخلاقية. وهنا، إن أحدث الوقوع في فساد القيم غرابة، إلا أنه يبقى حقيقة. ومع استمرار هذا النوع من الفساد وتطوره، تقل الصدمات في عملية التحول من الخير إلى الشر، أو من الحالة النظيفة إلى الوضعية القذرة. وعندما تكون البيئة حاضنة "نموذجية"، يكون التحول سلساً.
لا توجد قوانين (أياً كان مصدرها وقوتها) يمكن أن تجابه فساد القيم. فهذه الأخيرة ليست مؤسسة ولا شركة ولا حكومة، وبالإمكان وضع التشريعات اللازمة لصيانتها والعقوبات الرادعة لأي تجاوزات فيها. لذلك نجد، أن أكثر البلدان والمجتمعات تمتعاً بمستوى مرتفع من النزاهة والشفافية، ليست خالية من أصحاب القيم الفاسدة، أو من الأجواء التي تشجع على الفساد. فالمسؤولون في هذه البلدان، يقعون أيضاً من فرط فساد قيمهم. وفساد القيم يهدّد المستقبل في أي بقعة. لقد عانت بريطانيا (على سبيل المثال) في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ارتفاع حدة فساد القيم، لسبب واحد، وهو أن الحكومة آنذاك بقيادة مارجريت ثاتشر شجعت ودعمت قيم السوق المجردة على القيم الأخلاقية في السوق. فما كان من خليفتها جون ميجور (وهو محافظ مثلها)، إلا أن أطلق شعاره التاريخي الشهير "العودة إلى الأصول"، في سبيل إصلاح ما تهدم.
و"الأصول" في كل مكان من هذا العالم، فيها من القيم الأخلاقية الكثير. الذي يحدث أن تبدل الأنظمة والمفاهيم، مع التأثر بتربية أقل حرصاً على القيم، وفي بعض الحالات الحاجة كلها تشكل الوصفات الأمثل لفساد القيم. مع ضرورة التأكيد على أن الحاجة لا تبرر الوسيلة، وإلا أصبح كل مشين مقبولاً، وكل فساد حقاً، وكل جريمة فيها وجهة نظر! في هذا العالم، انهارت مجتمعات بأكملها، واكتسبت توصيف الفشل من فرط فساد القيم فيها، وانتشار الفساد في كل شرائحها. وفي النهاية، تبقى العوامل المتنوعة المحرك الرئيس لفساد القيم في كل الأزمنة والأمكنة. فهو نتاج تربية، وبالتالي لا مجال للقوانين الوضعية في الحد منه، إضافة إلى نتاج الأنظمة التي تنشر ثقافة الفساد كداعم أساسي لها. والأنظمة الأفضل توفر الحماية الأفضل للقيم المتوافرة، أو على الأقل، تمنع توسع نطاق الفساد فيها.