العيب في تطبيق الدين

اخترت هذا العنوان الاستفزازي ليتناسب مع طبيعة النقاشات المتطرفة وللفت الانتباه إلى حالة التشنج والصراع الفكري والمذهبي الذي بلغ حدا خطيرا في المجتمعات العربية. ومصدر الخطر أن يوضع الإسلام منهاج الأمة الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي في قفص الاتهام ويتم اختزاله في تصور كهنوتي تعبدي ضيق من جميع الأطراف المتناحرة. هذا الدين العظيم الذي قدم حضارة إنسانية راقية أساسها السلام والمحبة والعدل والمساواة والجد والاجتهاد والإنتاج والحفاظ على البيئة يخذله اتباعه فلا يكون خلقهم القرآن كما كان عليه رسولهم وقدوتهم عليه الصلاة والسلام. وهذا المبدأ أي "كان خلقه القرآن" يعني التحام النظرية والتطبيق، حيث نفعل ما نقول، هذه معادلة النجاح الحضاري! ولذا نجد المولى -عز وجل- كرِه للمؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون لأن في ذلك ضياع لكل شيء وإفساد للأرض وتفكك اجتماعي وخراب اقتصادي، يقول تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ". وهذا ما نشهده في عالمنا العربي من فساد استشرى أهلك الناس وأضعف الأمة حتى أصبحت دون هوية منهزمة تقتات على حضارات الأمم الأخرى.
الإسلام منهج حياة واضح المعالم يسعى لإعمار الأرض والحفاظ عليها وتوثيق العلاقة بين الشعوب. فالتعارف والتواصل والتكامل فيما بينها أساس وجودها يقول تعالى "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا". ولذا لما كانت الحضارة الإسلامية في أوج مجدها كانت مخترعاتها تصب فيما ينفع البشرية، لأنها محكومة بإطار أخلاقي يمنعها من تسخير الموارد للشر فلا أسلحة دمار شامل ولا أسلحة كيماوية ولا ملوثات بيئية ولا استنزاف للموارد الطبيعية كما في الحضارة الغربية التي أشعلت حربين عالميتين أهلكتا الحرث والنسل. وحتى في نظامه الاقتصادي تجد الإسلام يرتكز على قيمة الزهد وهو الاستهلاك المقنن في حاجة الفرد والمجتمع وليس تعظيم الإنتاج واستنزاف الموارد الذي أفسد الأرض والغلاف الجوي وهو ما أصبح ينادي به العالم تحت مسمى التنمية المستديمة. أما على مستوى السلوك الشخصي، فالمسلم مدعو إلى أن يتعامل بالعدل مع نفسه ومع الآخرين وكل شيء من حوله، ميزانه في ذلك الحلال والحرام. ولذا كانت الشريعة الإسلامية الأكثر كمالا وموضوعية لأن التعامل من خلالها لا يخضع للهوى والميل النفسي وإنما لرضا الله والتقوى "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" لتتكون لدى الأفراد رقابة ذاتية على شاكلة الصبية المسلمة التي تقول لأمها التي طلبت منها أن تغش اللبن "إذا لم يرنا عمر فإن رب عمر يرانا". أو عندما يدخل جيش المسلمين لبلد عنوة فيهرع سكان ذلك البلد لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يشكون له ذلك فيأمر جيشه المنتصر أن ينسحب! هذه ليست قصصا من نسج الخيال، بل أحداث وأفعال حقيقية، والتاريخ الإسلامي مليء بها، ومع ذلك هناك من افتتن بالغرب ليسلك مسلكه ويطالب باختزال الدين في دور العبادة وينادي بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية، بل يدعي أنها تعوق حركة الحياة. وهؤلاء نظروا لواقع المسلمين فرأوا التخلف والفساد والجهل والفقر والمرض ونسبوا ذلك للإسلام جهلا ولم يفطنوا إلى أن السبب وراء ذلك في واقع الأمر هو التخلي عنه ونبذه وراء ظهورهم. ولو كانوا منصفين لعقدوا مقارنة بين ما حققه المسلمون من تقدم حضاري فيما مضى عندما كانوا يطبقون أحكام الشريعة في السياسية والاقتصاد والاجتماع وحالهم اليوم عندما أصبحوا يتبعون الآخرين حذو القذة بالقذة، فمرة قومية ومرة اشتراكية واليوم يدندنون على الديمقراطية. وربما قال أحدهم الحكمة ضالة المؤمن أين وجدها فهو أحق بأخذها وهذه كلمة حق أريد بها باطل، لأنه كان من الأجدر أخذ الحكمة من الشريعة فأين هم من تطبيقها والأخذ بها. لكن مشكلة الإسلام أن أهله أصبحوا يوظفونه لتحقيق أغراضهم الشخصية ويعبدون الله على حرف ويؤمنون ببعض الكتاب فقط. ومعضلة أي نظام هو في عدم تطبيقه بصيغته المتكاملة الشاملة، ليكون بعد ذلك مشوها عاجزا عن تحقيق احتياجات الناس. إن التطبيق الشامل للشريعة يقتضي العدل والالتزام بتطبيق حدوده دون محاباة أو تعطيل على مبدأ "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
السؤال إذا لماذا تخلى المسلمون عن تطبيق قيم الإسلام في حياتهم ولم يترجموها إلى عمل مؤسسي؟ الأمر يعود بظني لسببين الأول منعهم الفساد من بناء نموذج عصري لتطبيق النهج الإسلامي في العمل الحكومي تنظيما وضبطا ومحاسبة للسلطة العامة. ولذا فإن الدعوة لتطبيق الديمقراطية الغربية تلقى صدى واسعا لدى البعض، التي ثبت أنها لا تحقق العدالة المنشودة، وما عليك لتدرك ذلك إلا أن تنظر لحال المشردين والفقراء في مدنهم المليئة بناطحات السحاب، وحال البؤس في حياة الكثير منهم وتحملهم أعباء اقتصادية كبيرة ومشكلات اجتماعية مع ما يظهرونه من بهرجة الحياة ولمعانها المزيف. لذا كان من الأجدر الحديث عن قيم العدالة والشفافية وحرية التعبير وليس الديمقراطية الغربية فهي لا تعدو رؤية واجتهادا في أسلوب تطبيقها، ومع ذلك نجدها تحيف في كثير من الأحيان، وما يحدث في العالم من حروب وقلاقل ونزاعات هو بسبب تلك الديمقراطيات. أما السبب الثاني فهو ثقافي يتعلق بطبيعة النهج الإسلامي المختلف عن المناهج الأخرى في الشرق والغرب. فالإسلام مقارنة بغيره مقيد للحرية المنفلتة "الدنيا سجن المؤمن"، وفي أصله طهوري يدعو للخلق الملتزم ولا ينسجم مع الحضارة العالمية الانحلالية التي تتضاد معه في كثير من قيمه وتوجهاته. لقد فتن كثير من المسلمين ببريق الحياة الغربية، فمنهم من انغمس في شهواته واتبع غيهم، وهناك من انكفأوا على أنفسهم وأغلقوا عقولهم وتحولوا بالإسلام إلى طقوس دينية دون تحقيق مقاصده الشرعية في إعمار الأرض. هكذا انقسم الناس في حواراتهم ومناقشاتهم حول مفهوم الدين الإسلامي بين إفراط وتفريط ليعكس حالة من الضياع والفراغ الثقافي والأخلاقي والحضاري وصورة مشوهة للإسلام العظيم. وعندما يكون العيب في التطبيق جهلا يتجرأ البعض عدوانا ليقول العيب في المجتمع سببه تطبيق الشريعة. ولكن نعيب الإسلام والعيب فينا!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي