فنلندا والتعليم
برز اسم فنلندا في السنوات الأخيرة ليس كدولة تعتمد على اقتصاد متنوع فائق التطور وفي أعقد حلقاته بل كظاهرة فريدة في حقل التربية والتعليم.
ولم تستقل فنلندا إلا في بدايات القرن العشرين، حيث كانت تستعمرها دول وشعوب أخرى، وإلى منتصف هذا القرن كان اقتصادها أساسا يعتمد على صناعة الخشب والغابات ولكنها خطت خطوات كبيرة في الـ 50 سنة الماضية جعلتها في مصاف الدول الأكثر تطورا في العالم.
كيف تستطيع فنلندا ذات الخمسة ملايين نسمة منافسة أكثر الدول تطورا في العالم بينما هي تستند في تلبية أغلب حاجياتها من طاقة وخامات إلى الاستيراد؟ هذه الدولة وإلى عهد قريب كان السويديون يمزحون بكسل أهلها وعدم اعتمادهم على أنفسهم وكذلك فقرهم، حيث كانوا يهاجرون بعشرات الآلاف واليوم تعد الجالية الفنلندية في السويد من أكبر الجاليات طرا في البلد؟
المزحة اليوم ارتدت على مطلقيها حيث وصل الدخل الوطني الإجمالي لفنلندا "بسعر الصرف" إلى اكثر من 250 مليار دولار ودخل الفرد أكثر من 37 ألف دولار ــــ أي أن الفنلنديين يعيشون في بحبوحة اقتصادية تفوق في كثير من تفاصيلها ما لدى السويديين.
والمختصون ومراكز الأبحاث عادة تحاول تفسير الظاهرة ومسبباتها. وخلاصة ما قرأته فأنهم يعزون النهضة الفنلندية وتفوقها كقوة اقتصادية بإمكانها الولوج في الأسواق العالمية ومنافسة الكبار فيها إلى متانة ورقي قطاع التربية والتعليم فيها. وأنا أنقل التجربة هنا عسى ولعل يرى فيها العرب ما قد يفيدهم.
كان قطاع التربية الفنلندي ولسنوات يتربع على عرش سلم الدول المتطورة ــــ رغم أنه نزل بعض الدرجات في الاستبيان الأخير لسنة 2012.
بيد أنه لا يزال ضمن قائمة الخمسة الأوائل في المهارات الحسابية والرياضية والمعرفية. الفنلنديون كانوا أول من فكر بإنشاء مدارس عامة ــــ أي تجمع الكل بغض النظر عن الاختلاف الطبقي أو المعاشي أو غيره ــــ لتوفير مستوى راق من التربية والتعليم.
هذه المدارس لها ميزات قد لا تتوافر في كثير من الدول منها تقديم وجبات طعام حارة للطلبة في المدرسة لأنهم يمضون أوقاتا طويلة فيها وتوفير نظام صحي متكامل يشمل طبابة الأسنان والعيون والطب النفسي وغيرها.
والوقت الطويل في المدرسة يحتاج إليه الطالب لأن المناهج المدرسية الفنلندية مكثفة جدا في جميع مراحلها لا سيما المتوسطة والثانوية وتتضمن مواد مثل الفلسفة والموسيقى وعلى الأقل تعلم لغتين أجنبيتين إضافة إلى الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة وغيرها.
وفي كل هذا يجب ألا ننسى أن التفوق الفنلندي في التربية والتعليم أساسه المعلم وإن أخذنا مكانة وتنشئة ومراكز ومعاهد إعداد المعلمين لجميع المراحل لرأينا أن البلد يتفوق على كل دول العالم دون منازع.
في فنلندا ليس هناك مراكز إعداد لتخريج "وجبات سريعة" من المعلمين. كل معلم لأي مرحلة يجب أولا أن يحصل على شهادة جامعية ــــ درجة بكالوريوس على الأقل. وهكذا صار المعلم والتعليم مهنة راقية في المجتمع لا بل صار التدريس والتعليم المهنة الأكثر حبا وولعا بالنسبة للشباب الفنلندي.
والكليات الجامعية التي يدرس فيها الطلبة كي يصبحوا معلمين يرتادها فقط طلبة الثانويات ذوي المعدلات العالية وغالبا ما يكونون ضمن الربع الأول لتسلسل ومعدل التخرج من المدارس الثانوية.
والتقديم لكليات التربية المعنية بإعداد المعلمين يعد فخرا للشباب يتنافسون عليه بشدة ولا يحصل على مقعد فيها إلا المحظوظون. فمثلا في عام 2010 حسب الإحصائيات المتوافرة تقدم 6600 طالب على 660 مقعدا جامعيا لإعداد معلمين للمرحلة الابتدائية.
كثير من دول العالم اليوم تقارن ما لديها في التربية والتعليم وتجربتها في هذا الحقل مع ما لدى فنلندا ومن ضمنها السويد سعيا للارتقاء بهذا القطاع الحيوي الذي يُعد العمود الأساس لبناء مجتمع متنور ومزدهر بإمكانه النهوض وإحراز قصب السبق في عالم تنافسي لا حدود لتطوره.