ثروة الأمم بمدارسها وذكاء طلبتها
إحصائية جديدة صدرت أخيرا عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية حول مدى استيعاب طلبة المدارس الثانوية ومدى ذكائهم في الرياضيات والقراءة والعلوم، ونزلت مثل القنبلة على الدول المتطورة في شمال أمريكا وأوروبا، وقد تؤدي إلى مراجعة شاملة للمناهج التعليمية وطرق التدريس وأساليب تأهيل المعلمين والمعلمات.
وقبل أن أنقل لقرائي الكرام بعض التفاصيل عن هذه الإحصائية ـــــ لا بل الدراسة ــــ أقول إن الاهتمام الكبير الذي لاقته على مختلف المستويات هنا في الغرب مؤشر كبير على الأهمية التي توليها هذه الدول للتربية والتعليم. ففي الولايات المتحدة مثلا، حيث نزلت مرتبتها درجات عديدة وسبقتها دول مثل لاتفيا وروسيا وإيرلندا وفنلندا وفيتنام ومنطقة شنغهاي وسنغافورة، كان لنشر الإحصائية وقع الصاعقة، حيث أخذها الإعلام الأمريكي بالتحليل والنقد، وأخذ أصحاب الشأن في الدولة يناقشونها ويلومون أنفسهم على نتائجها.
وكذلك يؤسفني القول إنني لم ألحظ ورود أي اسم لدولة عربية ضمن قائمة المتميزين التي في حوزتي. قد يكون السبب مرده أن هذه الدول لم تشترك في الاستبيان، أو لم يشملها الباحثون فيه.
ولكن لماذا نقيس الدول العربية ــــ وهي دول نامية ما زالت في خانة العالم الثالث. إن نظرنا إلى المراكز العشرة الأولى في هذه الإحصائية لما رأينا أثرا لبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وروسيا وإيطاليا وفرنسا. ماذا حدث للعالم يا ترى؟ إنني كنت أتصور، وكوني أستاذا جامعيا في واحدة من أرقى الجامعات السويدية، أن أرى السويد ضمن العشرة الأوائل، ولكنني صعقت عندما رأيتها قد هوت إلى المرتبة الثالثة والعشرين.
إذاً ما الدول العشر الأولى في العالم التي لها أفضل النظم التعليمية والتربوية والتي أيضا لها أذكى الطلبة في العالم، من حيث استيعابهم العلوم الحديثة والرياضيات، مما يمكنهم بعد التخرج من تبوؤ مناصب وأعمال تتطلب درجة عالية جدا من التقنية الحديثة، والتطبيق لوسائلها التي لا حدود لتطورها؟
المقاعد الخمسة الأولى وفي كل المجالات تقريبا تحتلها دول جنوب شرق آسيا وفي مقدمتها منطقة شنغهاي في الصين وبعدها سنغافورة وتايوان وجنوب كوريا واليابان. وهذه الدول استفادت كثيرا من التجربة الإسكندنافية ــــ شمال أوروبا ــــ التي كانت السويد من روادها، ولكن يبدو أن هذه الدول بدأت تخسر مكانتها عدا دولة واحدة وهي فنلندا.
والتجربة الفنلندية ــــ تحتل مدارس فنلندا وطلبتها المرتبة الخامسة في العالم بالنسبة للعلوم ـــــ صارت اليوم قِبلة الدول الأوروبية، لأنها الأقرب لهم من حيث الثقافة والجغرافية وتبادل الطلبة والأساتذة.
وفي السويد بدأت الجامعات تأسيس مراكز بحثية للوقوف على أسباب تخلف البلد في هذا المضمار، والاطلاع على تجارب الدول التي صارت في المقدمة، بعد أن كانت ترسل البعثات والوفود للتعلم من التجربة السويدية.
فمثلا في جامعتنا مركز بحثي خاص يعنى بطرق التدريس وأساليبها في دول جنوب شرق آسيا، وأخيرا حصل على منحة بملايين الدولارات لتقديم حلول ناجعة للارتقاء بالسويد مرة أخرى إلى مصاف الدول العشر الأولى.
وكانت الدراسة بالنسبة للمركز الصغير الذي أديره والذي يعنى بالشؤون الإعلامية من تدريس وتأثير وبحث وغيره بمثابة ضربة من غير رام، حيث أُبلغت أخيرا أنه تم تخصيص مليون دولار آخر للمركز إضافة إلى المنح الكبيرة التي حصل عليها سابقا.
لن يكون باستطاعتي التحدث عن التجربة الفنلندية بإسهاب، لأنني على وشك الوصول إلى حد 500 كلمة ــــ وهي سقف هذا العمود ــــ لذا سأترك ذلك إلى عمود الأسبوع القادم.
دعني أختم هذه الرسالة بالقول إن التطور والرقي وقوة المجتمع تستند بالدرجة الأساس إلى نظمه التربوية والتعليمية ومدى استيعاب وذكاء طلبته وليس بما يكدسه من أموال. رأس المال هو الإنسان. هكذا تفكر الشعوب الحية، ولهذا ستحاول السويد مثلا العمل بكل طاقتها كي تنتزع مقعدها كواحدة من أفضل خمس دول في العالم في مضمار التربية والتعليم.