لكيلا يظل القطاع الخاص موظفا حكوميا
بدأت رحلة الاقتصاد عندما تخلت أوروبا عن الاقطاع، لقد رأت مستقبلها في الصناعة فاتجهت طائعة نحو الثورة الصناعية، التي قادتها زهاء قرنين من الزمان، ومن رحم الثورة الصناعية ولد الفكر الرأسمالي، وعلى أساس من مشاهدات آدم سميث وضغط فلاسفة العلم آنذاك، تولدت قناعات اقتصادية حول عناصر الإنتاج وقدرة كل عنصر على خلق الثروة والعائد الذي يحصل عليه كل عنصر، ظهرت نظريات هيمنت على العقل الغربي لعقود طويلة، لم تتغير إلا بفعل هزات اقتصادية هائلة جدا تعادل في تأثيرها وإبهارها هزات الثورة الصناعية، لقد كان السؤال الملح طوال قرون يدور حول مشكلة التوزيع الكبرى، ولا يزال النقاش قائما حتى اليوم وخاصة من حلول التيسير الكمي التي انتهجتها إدارة أوباما لحل كارثة الأزمة المالية، من أين تنتج الثروة فعلا، ومن هو الأسد وما هو نصيبه منها؟ ولا يمكن لاقتصاد في العالم أن يتحرك دون أن يجيب عن هذا السؤال، ذلك أن العلاقات الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية سوف تتأثر بهذه الإجابة حتما. أولئك الذين في معاقل الرأسمالية يرون أن أصحاب رأس المال هم الذين لهم الحق في نصيب الأسد، فبدون رؤوس أموالهم لن تشترى الآلات ولن تستغل الأرض ولن يعمل العامل، وفي زمن الاشتراكيين قالوا إن العمال فقط لهم الحق والباقين عالة على جهدهم. وعلى كل حال فالخلاف واضح هنا، ذلك أن خلق الثروة هو خليط بين هذه الأمور جميعا والتوازن هو الحل.
اقتصاد المملكة اقتصاد ناشئ، حديث جدا مقارنة بقرون من التطور هناك. نشأ الاقتصاد السعودي الحديث عندما تدفقت الأرض بثرواتها من النفط، وقامت الدولة بوضع يدها على هذه الثروات كمالٍ عام، ثم أقرت نظما للتوزيع ترتكز إلى توظيف الدولة للمواطنين وإقامة المشاريع وتقديم الخدمات مجانا، وأيضا دعم القطاع الخاص الوطني بشتى الصور أهمها إشراكه في مشروعات الدولة، هذا النظام الجديد لحل مشكلة الإنتاج والتوزيع لم تنظر له كتب الاقتصاد العالمية، لكنه كان حلا عادلا في فترات قل فيها أن تجد أو تسمع بما يسمى القطاع الخاص الوطني، لم يكن هناك رجال أعمال ورأسماليون بذلك المعنى الذي تقصده النظريات الاقتصادية، لم يكن هناك عمال بذلك المعنى الذي نظرت له الاشتراكية ولم تكن هناك عوامل إنتاج حقيقية أسهمت في صنع الثروة التي تتدفق بشكل هائل جدا وغير مسبوق، في ظل عدم وجود علاقة صحيحة بين رجال الأعمال والعمال وبين صناعة وتدفق هذه الثروة، تنازلت الأمة فترة قصيرة للشركات العالمية في خضوع مبرر لفلسفتهم الاقتصادية، لكنها عادت ووضعت يدها على حقوقها كاملة.
بعد زهاء ثمانية عقود، وبعد دعم لا محدود من الدولة، انتظم كثير من الأمور، وظهرت على ساحة الاقتصاد الوطني شركات وطنية عملاقة، وصناعات حقيقية، وظهر العمال السعوديون بنسبة جيدة، حتى بدأنا نتحدث عن مصطلحات اقتصادية عالمية مثل البطالة والأسعار والتوزيع. ومع اتساع شريحة العمال السعوديين وارتفاع نسب البطالة بدأنا نسأل جميعا عن دور القطاع الخاص، خاصة أنه يحصل على عوائده الكبرى من خلال ما تقوم الدولة بدعمه، ومن خلال ترسية العقود وشراء المستلزمات من القطاع الخاص بأغلى من أسعارها الفعلية في السوق، فكأن الدولة لم تزل تمارس دورها في توزيع جزء كبير ــــ إن لم يكن نصيب الأسد ــــ من الثروة على رجال الأعمال، ومن حق المجتمع أن يقوم رجال الأعمال بدورهم في إعادة توزيع الثروة من خلال تشغيل العمال السعوديين، حتى يتم إعادة تدوير الثروة في الاقتصاد بطريقة صحيحة تضمن الاستدامة. هذا صحيح نظريا، ومارست الدولة جهودا جبارة من أجل تصحيح العلاقة بين العمال ورجال الأعمال، لكن الوضع الذي بدأ يظهر جليا هو اعتماد رجال الأعمال على الدولة في بقائهم وبالتالي سلامة الاقتصاد السعودي واستدامته، فمن الواضح أن رجال الأعمال وفقا لهذا التصور أصبحوا مجرد موظفين لدى الدولة بطريقة فريدة. وهذا يعرض الاقتصاد الكلي لمخاطر جسمية، ذلك أننا جميعا وبلا استثناء نعتمد على النفط، وأن رقم مساهمة القطاع الخاص غير النفطي في الإنتاج المحلي مشكوك في دلالاته الاقتصادية، بسبب اعتماد هذا القطاع في بقائه على القدرة المالية للدولة، التي تعتمد في اقتصادها على النفط.
لسلامة الاقتصاد ولكيلا يظل رجال الأعمال موظفين حكوميين تحت بند المقاولات والمناقصات، يجب أولا إعادة النظر في لائحة المشتريات الحكومية، وتشجيع المنافسة الصناعية وكسر الاحتكارات، وأن تحرر الدولة الكثير من الصناعات، والقطاعات، الاقتصادية، وأن نتحول إلى الإنتاج الصناعي. كما يجب أن يصبح القطاع الخاص أكبر مشغل للعمالة الوطنية، وأن يكون العمال أكبر مشتر نهائي من إنتاج الشركات والمصانع.
كيف يمكن الوصول إلى هذا المستوى تلك رحلة اقتصادية يجب أن نبدأها، وهذا السؤال يجب أن تناقشه المنتديات الاقتصادية.