الدعم الحكومي .. الضرورة والضرر
رغم حساسية مسألة الدعم الحكومي في عديد من الدول، إلا أنها لم تعد قابلة للتعاطي معها على المنوال المتبع منذ أن انطلقت أشكال الدعم، حتى في ظل التحولات السياسية الراهنة في المنطقة. فالأمر لم يعد خاصاً بحكومات الدول التي توفر الدعم فقط، بل يشمل أيضاً الجهات المعنية بالحراك الاقتصادي الإقليمي والدولي في آن معاً. ولذلك وجدنا مؤسسات مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وغيرها، تحذر الحكومات التي تنفق أموالا هائلة على الدعم، من الآثار السلبية لهذا الدعم على المدى البعيد، بل من الانعكاسات الخطيرة له على متانة الاقتصاد المحلي، وبالتالي على النمو، وعلى الثروات وعلى الاستهلاك في كل شيء، من القروض المصرفية (الاستهلاكية) إلى الطاقة إلى المياه، بل حتى المواد المدعومة نفسها.
والدعم الحكومي مثل أي قطاع آخر يحتاج إلى إعادة صياغة، سواء عبر الإصلاحات أو حتى الإلغاءات إن لزم الأمر. وفي المنطقة العربية، وفي مقدمتها دول الخليج، لا تزال معايير وأسلوب وشكل الدعم هي ذاتها منذ انطلقت، وهذا ما أدى بصورة طبيعية، إلى ''قضم'' الدعم حصة هائلة من الإنفاق العام، مما يؤثر سلبياً في مخرجات الإنفاق العام فيما يرتبط بالتنمية. والآثار السلبية للدعم، ينبغي ألا تدفع إلى قرارات غير مدروسة، بما في ذلك طبعاً إلغاء الدعم نهائياً، دون النظر إلى المشهد الاقتصادي المعيشي العام في هذا البلد أو ذاك. فالمطلوب بالدرجة الأولى، ليس أكثر من إعادة صياغة استراتيجية الدعم، ووضع أطر جديدة لها، تتناغم مع التطورات السلبية والإيجابية في آن معاً. فما كان ينفع قبل عشر سنوات، لا يصلح حالياً.
قبل أيام أصدر صندوق النقد الدولي تقريراً حول دعم الطاقة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أظهر أرقاماً هائلة، بل خيالية. فهذه الدول تنفق سنوياً أكثر من 120 مليار دولار على دعم النفط ومشتقاته. وهذه الأموال تشكل 50 في المائة من الحجم الكلي للدعم البالغ 240 مليار دولار. وبحساب آخر يساوي 8,5 من الناتج المحلي في المنطقة، أو 22 في المائة من الإيرادات الحكومية فيها. لا تزال هناك برامج للدعم الحكومي، حتى في الدول التي اختارت المعايير الرأسمالية الجافة، أو غير الرحيمة، لكنها (بالطبع) تقدم الدعم، حسب ما تتطلبه الحالة، لا وفق قانون عام فضفاض يمكن أن يستفيد منه صاحب المليارات.. وفي الوقت نفسه صاحب دخل محدود جداً باحث عن أقساط مدرسية لأبنائه!
لا يمكن ترك شرائح اجتماعية محددة لمصائرها في البلدان التي توفر الدعم. وفي بلدان الخليج كلها يستفيد من برامج الدعم، أشخاص لا يعرفون حجم ثرواتهم من فرط كثرتها. وإذا ما نجحت الكويت في وضع سياستها الجديدة حيال الدعم الحكومي، التي جاءت في الواقع بعد تحذيرات مباشرة من البنك الدولي، فستكون الأولى في هذا المجال على صعيد المنطقة كلها، وربما تشجع الدول الخليجية الأخرى وبقية الدول العربية في المنطقة، على اتخاذ خطوات مماثلة في المستقبل القريب. فالقضية لا تتعلق بإلغاء الدعم، بل بإصلاح نظام الدعم الذي ينبغي أن يُربط بصورة مباشرة بالضمان الاجتماعي. فلا يعقل أن يحصل تاجر أرز خليجي، على معونة أرز حكومية!
إن الدعم الحكومي بشكل عام، هو ضرورة في أي مكان وزمان، للحفاظ على الحد المعيشي المقبول للشرائح متدنية الدخول، بما في ذلك بالطبع الخدمات التعليمية والتأهيلية والصحية. والدعم الحكومي هو أيضاً ضرر على بنية الاقتصاد الوطني، عندما تختلط الأمور بين الاقتصاد الريعي، والجانب الأخلاقي من اقتصاد السوق.