أجهزة الرقابة .. تضارب الأدوار وعلل بيروقراطية

ما هي الرقابة؟ بشكل عام هي نظام شامل من أجل ضمان وتأكيد أن ما تم التخطيط له سينفذ بطريقة صحيحة، وألا أحد يسيء استخدام الأصول بأنواعها الثابت والمنقول، وأن إعداد التقارير وتوثيق العمليات يتم بطريقة سليمة تضمن معلومات صحيحة لمتخذي القرار. هذا صحيح على مستوى المال العام وصحيح أيضا على مستوى كل جهة مسؤولة، صحيح بالنسبة للقطاعين العام والخاص على حد سواء. ومن الملاحظ أننا استخدمنا كلمة نظام، في تعريفنا لهذا المفهوم المعقد، وفي هذا إشارة واضحة إلى أنه يشمل عناصر متعددة لكنها متكاملة فيما بينها، فالنظام الرقابي الشامل في القطاع الحكومي يبدأ من تطوير أنظمة للرقابة الداخلية في الجهات الحكومية، بما في ذلك من أدوار متعددة لوحدات متنوعة داخل الجهة الحكومية ومنها الإدارة المالية وإدارة المتابعة، والمراجعة الداخلية، إضافة إلى المراقب المالي، والأدوار الرقابية التي تمارسها الإدارة العليا في كل جهة. وعلى مستوى الدولة ككل يتم العمل الرقابي من خلال عدة جهات منها وزارة المالية، وديوان المراقبة العامة، وهيئة الرقابة والتحقيق، وهيئة مكافحة الفساد. وكقاعدة عامة لن ينجح العمل الرقابي ما لم تتكامل هذه الأدوار ويعرف كل جهاز دوره ومسؤولياته، وأن تكون هذه الأدوار مكتوبة بشكل مفهوم ودقيق، وأن يتم تعريف الجهات الخاضعة بها، وهذا باختصار ما يسمى بالحوكمة. فالعلاقات بين جميع الأجهزة الرقابية يجب أن تكون واضحة والحقوق والواجبات وكذلك المسؤوليات، وأن تكون مكتوبة ومتاحة، ويبقى السؤال الكبير الذي نواجهه اليوم ونحن نعبر اليوم العالمي لمكافحة الفساد: هل لدينا مثل هذه العلاقات الدقيقة بين المؤسسات الرقابية، أم هناك تداخل وازدواجية وفوق كل ذلك عمل بيروقراطي معلول؟
قلنا إن الرقابة نظام، ولذلك لا يمكن للرقابة أن تعمل بشكل جيد وتحقق أهدافها في منع الغش واكتشاف الأخطاء إلا من خلال العمل وفقا لآلية النظام، لكن إذا بدأ النظام يكرر نفسه والأدوار تتداخل فإن الفرصة تكون كبيرة لحدوث الأخطاء والغش، وإساءة استخدام الأصول. عندما تقوم هيئة مكافحة الفساد بممارسة الدور نفسه الذي يقوم به ديوان المراقبة وتستخدم الآلية نفسها والتوقيت، فإن أعباء النظام الرقابي الحكومي ستزداد وتزداد تكلفته مع انخفاض إنتاجيته. ورغم أن مسمى هيئة مكافحة الفساد قد ارتبط بالفساد والبحث عنه واكتشافه، لكنها من خلال تصريحات منسوبيها تدخل في أعمال رقابية هي من صميم أعمال ديون المراقبة العامة كتقييم الأداء والرقابة المالية اللاحقة، والرقابة على العقود والمشاريع. هذه الصورة من التداخل تظهر مرة أخرى في داخل المؤسسات الحكومية التي لديها وحدة للمراجعة الداخلية ومراقب مالي إضافة إلى إدارة للمتابعة، وإدارة للجودة، فأصبح السؤال الأكثر إلحاحا في المؤسسات هو معرفة الفرق بين هذه الوحدات وعلاقتها ببعضها وكيفية التعامل معها وبينها. وتجاوز التداخل حده عندما بدأت وحدات المراجعة الداخلية في عديد من المؤسسات تمارس دور موظفي ديوان المراقبة العامة نفسه الذين لديهم مكاتب في الجهة نفسها، وهو ما جعل الموظفين يشعرون كأنهم في وسط متاهة رقابية تعوق العمل أكثر مما تضيف الثقة إلى ما تم تحقيقه.
من فضول القول أن نقر بأن الأنظمة التي صدرت بإنشاء هذه الجهات والوحدات الإدارية المختلفة واضحة كل الوضوح في الفصل فيما بينها، ولكل جهة مرجعية خاصة بها، ولكن المشكلة بدأت بشكل أساسي في انتقال الكوادر من جهة إلى جهة ومن إدارة إلى إدارة، فمن كان يعمل في ديوان المراقبة العامة أصبح اليوم يعمل في هيئة مكافحة الفساد، ومن عمل في إدارة المتابعة أصبح يعمل في إدارة المراجعة الداخلية، بل إن بعض الجهات تعرض على موظفي ديوان المراقبة العامة الانتقال لديها للعمل في إدارات المراجعة الداخلية، ولا مشاحة في انتقال الموظف، لكن لهذا المذهب تأثيره المهم في قولبة كل الأعمال الرقابة في شكل واحد وصبغها بالطابع نفسه، وهذا ما حوَّل العمل الرقابي من عمل إبداعي في حد ذاته إلى عمل روتيني بيروقراطي ممل ومكرر.
من المهم إذا أن يعاد تعريف الرقابة في القطاع العام، وأن تتم صياغة نظام شامل للحوكمة، يوضح بجلاء كل العلاقات الرقابية والمتداخلة وفصل الوظائف عن بعضها بعضا، وأن تقوم كل جهة بما يناط بها من مسؤوليات. لعلنا إذا أكملنا بناء هذه المنظومة نكتشف إلى أي مدى نحن قادرون على دمج بعض المؤسسات في بعضها من أجل رفع كفاءة العمل والتقليل من مدى التعارض في المهام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي