من يحمي المسيحيين في البلدان العربية؟

تريثت كثيرا قبل الشروع في كتابة عمود جمعتنا المباركة هذه. والسبب واضح. في العلوم الاجتماعية التي أنا أبحث فيها وأدرّسها نحث أنفسنا وطلبتنا وأقراننا على الابتعاد عن الذاتية، وننحو صوب الموضوعية قدر الإمكان.
واحد من المعايير الأساسية التي نستخدمها لتحقيق قدر مرضٍ من الموضوعية يستند إلى الصراحة والشفافية والنزاهة في قول الحق عن أنفسنا. هذا معناه يجب علينا أن نبين للمتلقي كباحثين من نحن؟ وما ثقافتنا؟ وما تاريخنا وانتماؤنا وتحصيلنا العلمي ونتاجاتنا، وغيرها من الأمور.
لماذا؟ هناك عدة أسباب، أولها علينا عدم خداع قرائنا الذين لهم كامل الحق في معرفة من نحن. وثانيها وضع أنفسنا طواعية أمام محك وميزان العدالة وتطبيقها على أنفسنا قدر الإمكان قبل أن يصدر القضاة حكمهم في حقنا. وثالثها، كسب ثقة المتلقي بما نحاول أن نوصله من معلومة.
والمتابع لكتاباتي لا بد أنه تكونت لديه فكرة قد لا تكون متكاملة، ولكنها ربما كافية تمكنه من الولوج في الجانب الذي غالبا ما نحاول نحن كبشر إخفاءه ظنا منا أنه باستطاعتنا إخفاء شمس الحقيقة بالغربال.
وأنا لا أكشف سرا إن قلت إنني مسيحي مشرقي نشأت وترعرعت في كنف وصفوف العرب المسلمين لـ 50 عاما ونيف، وفي كل هذه المدة الطويلة تبوأت مناصب منها في الصحافة والأكاديميا، ولم ألحظ يوما أن كوني مسيحيا مشرقيا كان أمرا معرقلا أو مقصيا أو محبطا لإنسانيتي وممارستي لهويتي الدينية والثقافية واللغوية بصورة عامة.
كانت الغالبية المسلمة التي عشت في كنفها متنورة ومتشبعة بالإسلام وحضارته وفكره الذي يدعو إلى التسامح وقبول الآخر والعيش المشترك والمساواة، بغض النظر عن الخلاف الديني أو المذهبي أو الثقافي.
أتكلم عن البيئة التي عشت فيها، حيث كان المسلمون يتقاطرون لزيارة كنائسنا وأديرتنا التي تحمل أسماء مثل مريم العذراء ''مريم بنت عمران'' أو أسماء أنبياء تشترك الديانات السماوية في تقديسهم.
وكنا نحن المسيحيين المشرقيين أيضا نتقاطر لزيارة المراقد والجوامع التي تحمل أسماء مثل يحيى ويونس، لأننا كنا نراها وكأنها ملكنا.
والمسيحيون المشرقيون ــــ وهذا مثبت في التاريخ ــــ استقبلوا العرب الفاتحين لأمصارهم بأذرع مفتوحة، لأنهم كانوا تحت اضطهاد مريع من قبل أتباع مذهب مسيحي مختلف في سورية ومصر ومن قبل الفرس في العراق مثلا، إلى درجة أنهم أطلقوا لقب ''الفاروق'' وهي كلمة بلغتهم الوطنية السريانية ــــ تعني المنقذ أو المخلص ــــ على الخليفة عمر بن الخطاب، لأنه أنقذهم من مضطهديهم.
ولعب المسيحيون المشرقيون دورا رائدا في العصر الأموي والعباسي وشاركوا إخوانهم العرب والمسلمين في مقاومة الغزوات الأجنبية لبلدانهم، وقتل الصليبيون منهم ربما أكثر مما قتلوا من المسلمين.
وللمسيحيين المشرقيين كما للأقليات الأخرى مواثيق وعهود، منها ما منحها لهم الرسول الكريم ومنها ما منحها لهم الخلفاء الراشدون، حيث كان يُعد هدم بيعة أو دير أو الاعتداء على راهب ناسك من المحرمات.
وفي العصر الحديث لعب المسيحيون المشرقيون لا سيما في لبنان وسورية والعراق دورا رائدا في النهضة العربية والإسلامية الحديثة، فكان منهم شعار كبار وعلماء كبار وباحثون أغنوا بكتاباتهم ومؤلفاتهم التراث والثقافة والموروث العربي والإسلامي، وتشبعوا بها إلى درجة تخلى فيها الكثير منهم عن هويتهم السريانية من حيث اللغة والآداب والثقافة والموروث وصاروا يقرون بعروبتهم وتشبعهم بالتراث والحضارة العربية والإسلامية.
إنه لأمر مؤلم جدا أن نرى اليوم بعض الفرق والمجموعات التي تدعي الإسلام دينا والإسلام منها براء، تحارب وتكفر الآخر المختلف عنها ليس قولا فقط، بل ممارسة من خلال القتل والاضطهاد والاعتداء على البِيع والأديرة والرموز الدينية للمسيحيين المشرقيين. كمتتبع ومولع بالتاريخ العربي والإسلامي لا أكاد أصدق ما يحدث، لأن هذا ليس من شيم العرب ولا من شيم ومحاسن ومكارم الإسلام كفكر نير.
ومن هذا المنبر ألتمس من بلد الحرمين وقائده خادم الحرمين طمأنة المسيحيين المشرقيين كما طمأنهم على أملاكهم وحياتهم وأعراضهم وأوقافهم أسلافه من الراشدين والأمويين والعباسيين، لا بل أن يدعو الذين هربوا إلى بلاد الغربة إلى العودة.
وكذلك أدعو الشيوخ والدعاة العرب المسلمين إلى إطلاق فتاوى تحرم كل ما ينافي الأخلاق الإسلامية الحميدة، التي لا يمكن أن تقبل اضطهاد الناس بسبب الدين واللون والمذهب، وأن تذكّر الكل بأن الإسلام قوته في تنوعه وتعايشه وقبوله للآخر من مسيحيين مشرقيين وغيرهم من الأقليات التي ولدت وترعرعت في بلاد العرب، ويجب أن تستمر وتزدهر هناك، بالمشاركة الفاعلة مع إخوانهم المسلمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي