خطاب الـ 20 مليونا إلى حضرات القضاة
عندما كتب 200 من القضاة شكواهم لخادم الحرمين الشريفين، رأيت أن يرد عليهم العشرون مليونا الباقون من مواطني المملكة، فكتبت:
إلى حضرات القضاة في بلاد الحرمين الشريفين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فانطلاقاً مما قرأناه في خطابكم الجزل إلى خادم الحرمين الشريفين، الذي أبرز عنايتكم بمرفق القضاء، واهتمامكم بإنجاز المعاملات والأعباء وانزعاجكم الشديد من تأخير القضايا وطول فترات التقاضي التي يعانيها الأحياء، وعاناها قبلهم القدماء.
وانطلاقاً من حرصكم الواضح على تطوير المرفق وحمايته من كل ما يمرق، واهتمامكم بسمعة وطنكم في الخارج ولدى هيئات حقوق الإنسان ومنظمات الأمم ومواثيقها التي عليها كل العالم اتفق. فقد عقدنا العزم على النصيحة لكم مباشرة، ونؤكد أن هدفنا من النصح هو خيرا الدنيا والآخرة، لئلا يبوء أحد بذنب أحد ولا يخسر قاض أو مواطن من حسناته أو يفقد مَأْثَرَة.
لقد بدأتم الخطاب بالحديث عن البدلات والأموال، فاعتقد الجميع أنها لديكم ذات بال، وأنكم إنما كتبتم لطمع دنيا أو تحسين أحوال، ولم يعلموا أن مرادكم أكبر من ذلك وأعظم من أن يطال. تلكم الهفوة أعادت الناس لذكرى مطالباتكم القديمة من المالية ومن مجلس القضاء التي منيت بالهزيمة، وليتكم تتوقفون عن المطالبة بالأموال حتى لا يرمقكم الناس بنظرات لئيمة.
أما حديثكم عن إصلاح القضاء وترميمه، فهو أمر كلنا ننتظره ونتمنى أن يرى النور، لأننا سئمنا من الأساليب القديمة، واعتبار المتقاضين غير ذوي قيمة، ومحاولة إهانتهم من الموظفين ومن ثم الجالسون في غرف المختصر العتيمة. يحدث كل هذا تحت نظر أصحاب النظر، ويعانيه النفر كل النفر، وما زال النظر إلى المواطن شذرا، حتى أصبح ذكر المحكمة في المجالس يجلب الكدر.
وعملاً بقول المصطفى -عليه أفضل الصلوات والسلام- فيما معناه ''فالبدء دوماً بإصلاح الذات عند الشخص الهُمَام''، ولهذا فقد كتبنا لكم مقترحاً يهدف إلى التقليل من الكلام، والبدء بتنفيذ خطوات جريئة، وتضمن لكم تحقيق ما تريدونه بإذن رب الأنام.
- أول هذه الأمور العناية بأوقات الدوام، فالقاضي قدوة، وعلى كل خطأ يُلام، وعندما يعمل القاضي من السابعة والنصف إلى الثانية والنصف فهو قد حقق الواجب الذي بني عليه سلم الرواتب في النظام. على أنه قد يكون هناك من القضاة من يرومون تجاوز إثم ما استقطع من الوقت، فيعملون لمدة تتجاوز الزمن الذي قلت، فأولئك هم الخير والبركة وهم فئة العمل لله والبذل بصمت.
إن تحقيق هذا الشرط من قبل كل من هم في مجال القضاء سيضمن إنهاء كل القضايا على حد سواء، ولا يَشْغَلَنِّي أحد بقول إن القاضي لا يحكم إلا وقد احتسى القهوة والماء، وراق مزاجه للحكم وتخلص من كل الأهواء، فالقاضي رجل قويم وحياته -عادة- تخلو من المكدرات واللأواء.
- ثاني النصائح تجدونها في سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم - والخلفاء ومن سبقكم من قضاة الزمان الأول والعلماء، وهي طيب النفس وحسن الخلق مع الصغار والكبار والضعفاء، وتغليب الابتسامة على التكشيرة التي يظنها البعض من مزايا النبلاء، والتعامل الحسن يضمن لكم الحب والولاء، فلا تطلبون شيئاً إلا وكان لكم عون من كل الأرجاء.
- ثم أنصح نفسي وإياكم بالابتعاد عن التعلق بالمال والجاه، فهي مهلكات المرء وحارمته من أخِلَّاه، ودافعة إلى الفتن والتباغض والحرمان من النجاة، في العاجل والآجل وفي كل اتجاه. وليكن قدوتكم في ذلك الأولون، فخليفةٌ تصدق بكل ماله والبنون، وآخر رقع ثوبه وهو يحكم فارس ومصر وبلاد ذا النون، وثالث خشي أن يبقى من ماله شيء لم يتصدق به فأهلكه لئلا يسأل عنه يوم لا ينفع مال ولا بنون.
- أخيراً أتمنى أن تعودوا لتوحيد الصف، والبعد عن الانشقاق ومخالفة ما أديتموه من حلف، فالمولى حرَّم الاختلاف المؤدي إلى الضعف، وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيما معناه، ''القاصية هي التي تؤتى من الذئب'' والمُرْجِف. لعل في نصح الوزير ما يمكن أن يحقق المراد وينهي الخلاف الحاد ويعيد المحبة والتواد وهو ما يريده كل من قرأ الكتاب ومن الحكمة ازداد.
قد يكون من المهم أن تراجع قضية ربط مجلس القضاء بوزارة العدل، فالقضاء يجب أن يحظى بالاستقلالية المطلوبة، ويكون عليه مسؤولون لا تشغلهم عنه أي قضية أو مشكلة إدارية أو روتينية. نفع الله بالقضاة وزادهم فقها وعلماً وأصلح ذات بينهم وجعلهم مخلصين لبلادهم وأمتهم.