الاستفادة من تجارب الدول الأخرى

تجرى مقارنات بين مسيرة التنمية في المملكة ومسيرات التنمية في الدول الأخرى، وتبرز هذه المقارنات بصورة تلقائية عند زيارة الدول الأخرى أو النظر إلى إنجازاتها التنموية. ويسافر الكثير منا إلى دول شقيقة أو صديقة ويرى النجاحات الباهرة التي حققتها بعض مدن وبلدان العالم ويستمتع بها ويتمنى تحقيقها في مدننا وبلادنا. وتأتي دبي على رأس المدن التي يسافر إليها السعوديون لقربها وسهولة السفر إليها والمعاملة الحسنة التي يجدونها. ويرى الزائر الانضباط المروري، والنظافة، والالتزام بالأنظمة، والتنظيم الجيد للمؤتمرات والاجتماعات، وخدمات الأعمال المتميزة، والبيروقراطية المنظمة. ويشعر البعض منا بالإحباط لتخطي دبي ''والإمارات بشكل عام'' لنا في كثير من المجالات على الرغم من أننا الأقدم في التنمية والأكثر ثراءً في الثروة النفطية. فهل علينا أن نشعر بالذنب ونقوم بجلد الذات لهذه النتيجة ونصب جام غضبنا على أنفسنا. ولا أعتقد أن عمل هذا سيساعدنا كثيراً في تطوير بلدنا، بل على العكس قد يقود إلى تفشي الإحباط حول أدائنا، من جهةٍ أخرى فإن إلقاء اللوم على الظروف وكثير من المبررات غير المنطقية هو محاولة للهروب من تحمل المسؤولية.
إن مقارنة تجاربنا مع الآخرين سواء كبلدان أو حتى كأفراد أمر طبيعي، ولكن ينبغي ألا تقود إلى الإحباط أو جلد الذات. لقد نجحت دبي والإمارات وكثير من دول العالم في مجالات كثيرة، ولكن هذا لا يعني نجاحها في كل شيء. فعلى الرغم مما نرى من مظاهر تخلف في بعض مجالات التنمية أو تصرفات المجتمع إلا أننا حققنا نجاحات جيدة ومتميزة في كثير من المجالات، كما ينبغي ألا نتناسى أننا نركز أكثر من أي بلد آخر في العالم على قيمنا الإسلامية ونحاول المحافظة عليها والالتزام بها، بل ونضعها على قائمة أولوياتنا وهذا نجاح يحسدنا عليه كثير من الآخرين.
وتختلف نتائج الجهود التنموية بين دول العالم بسبب اختلاف إمكانيات، ومسؤوليات، وقدرات وإمكانات الدول البشرية والمادية والمؤسسية، وتاريخ بدايتها، والظروف السياسية الداخلية والخارجية المحيطة بها. وحققت الدول الصغيرة مثل سنغافورة ودبي نجاحات باهرة بسبب تبني سياسات الانفتاح التجاري والثقافي على العالم، واستغلال الموقع الجغرافي، وتسهيل تدفق السلع والخدمات والموارد البشرية والمادية، وخفض مستويات البيروقراطية والفساد الإداري لمستويات متدنية. وساعد صغر الحجم وانخفاض تكلفة الخدمات الدفاعية، الدولتين أو المدينتين في تحقيق نجاحات متميزة خلال فترة محدودة من الزمن. ورغم كل النجاحات التي حققتها المدينتان فقد جلبت أساليب التنمية هذه بعض المعضلات والمظاهر الاجتماعية الغريبة.
ونجحت دول نفطية أخرى مثل النرويج في التعامل مع الثروة النفطية وحدت من استخدامها للأغراض الاستهلاكية، وخصصت ريعها من أجل الأجيال المقبلة. ونجحت النرويج أيضاً في توفير الرفاهية الاجتماعية لسكانها، وجاءت على قائمة الدول في التنمية البشرية واعتبر سكانها من أكثر سكان العالم سعادة، ولكن هذه النجاحات لم تتحقق بسبب الثروة النفطية فقط، حيث تملك النرويج مصادر دخل وثروات أخرى تضارع النفط في إيراداته وحجمه، كما أنها بدأت عمليتها التنموية قبل المملكة بفترة من الزمن، وتمتع سكانها بتنمية بشرية عالية قبل اكتشاف النفط، ولهذا كان من السهل على النرويج الاستغناء عن إيرادات الثروة النفطية، ووضعها في استثمارات طويلة الأجل، وتخصيص ريعها للصرف على المتقاعدين. ولا تستطيع المملكة أن تدخر كل إيراداتها النفطية للأجيال المقبلة كما تفعل النرويج، ولو ادخرت كل إيرادات النفط فلن تستطيع القيام بعملية التنمية ولن تتمكن من توفير الخدمات الحكومية والوظائف المتوافرة في الوقت الحالي.
إن النظر إلى تجارب الدول الأخرى وتمحيصها أمر مندوب ومطلوب، ولكن علينا أن ندرك أن نسخ تجارب الدول الأخرى وتطبيقها بحذافيرها لن يؤدي إلى نفس النتيجة أو يقود للنجاح نفسه. وتوجد اختلافات كثيرة بين الدول لا يمكن تحديدها بسهولة كما يتصور البعض، ولهذا تأتي نتائج نسخ التجارب مخيبة للآمال في كثير من الأحيان. إن نجاح الدول الأخرى ينبغي ألا يدفعنا إلى التألم لتأخرنا في بعض المجالات عنها، ولكن تمحيص هذه التجارب سيساعدنا في التعرف على العوامل التي أعاقت تحقيق نجاحات مماثلة في هذا البلد الكريم. إن لدى النرويج والدول الأخرى المتميزة تجارب جيدة في التعامل مع الثروة النفطية والتنمية البشرية والبنية الأساسية. ويمكن الاستفادة من هذه التجارب في الحد من استنزاف الثروة النفطية، وفي توفير رعاية اجتماعية متميزة، وتطوير البنية الأساسية.
من جهة أخرى، فإن نجاح هذه الدول لم يأتِ من فراغ، فها هي النرويج تفرض مستويات ضرائب من الأعلى عالمياً، حيث يصل معدل الدخل الضريبي 41 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. فهل نحن مستعدون لدفع ضرائب مرتفعة للحصول على منافع متميزة؟ لا أظن ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي