لا تشترِ بضاعتي

توجهت في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) إلى متجر في مانشستر في بريطانيا لشراء جهاز كهربائي محدد. قطفتُ الجهاز من الرف وحملته إلى المحاسب؛ لأدفع قيمته. رحب بي المحاسب قبل أن يندلع من لسانه سؤال غريب: هل أنت مصر على شراء هذا الجهاز الآن؟ أجبته وعلامات الدهشة تكسو ملامحي: بكل تأكيد. حينها قال لي: أقترح عليك سيدي أن ترجئ شراءه إلا إذا كنت مضطرًا؟ فسألته: لمَ؟ رد بعد أن انتقلت علامات الاستغراب من وجهي إلى وجهه: ''يبدأ موسم التخفيضات في كانون الأول (ديسمبر) كما تعلم. وعند ذلك الحين تستطيع اقتناء الجهاز بعد خصم يصل إلى 30 في المائة، إذا أحببت''.
شكرته على تذكيره مدعيًا أنني نسيت موسم التخفيضات. ثم أعدت الجهاز إلى مكانه. ناداني المحاسب، وأنا أهم بالخروج من المتجر، وهو يربت على كتفي بكلماته: ''لا تقلق عزيزي. لدينا أجهزة كافية جدًا في المستودعات، وحتى تطمئن اشترك في قائمتنا البريدية في الموقع؛ ليصلك موعد بداية موسم التخفيضات بالضبط''.
وأنا أقفل عائدا إلى منزلي تذكرت أنني قادم من مجتمع لا يعرف سواده الأعظم سوى موسم واحد هو الموسم الكروي.
لدى معظم الدول الناطقة باللغة الإنجليزية في كانون الأول (ديسمبر) يوم يعرف باسم the Boxing day ''يوم الصناديق'' قبل أعياد الميلاد، تقوم فيه المحال ببيع منتجاتها وفائض بضاعتها بأسعار زهيدة جدًا؛ لتتخلص منها بأسعار رمزية وتستعد لاستقبال بضاعة العام الجديد.
هذا اليوم يتيح للتجار والزبائن على حد سواء فرصة الاستفادة من هذا الموسم الذي ينتظره الغربيون كل عام بلهفة. بعضهم يفترش الأرصفة المتاخمة للمحال وينام بجوارها حتى يقبض على البضاعة التي يبتغيها. يحتشدون في طوابير طويلة لا تنتهي من أجل الظفر بما لذ وطاب من البضائع.
يقوم الكثير منهم بانتهاز هذه الفرصة لشراء احتياجاتهم للعام كاملا تقريبا. فبقيمة قميص واحد في المواسم الاعتيادية يستطيع أن يشتري خمسة قمصان أحيانًا في موسم التخفيضات. بالطبع قد لا يجد المرء ما يريده تمامًا، لكن وهبت هذه المتاجر الفرصة لزبائنها للحصول على سعر مخفض جدًا لا نشاهده في متاجرنا العربية.
خدعونا تجارنا عندما لم يوفروا لزبائنهم التخفيضات المناسبة.
قاموا بشكل أو بآخر بإفساد أعيادنا باستغلالهم البشع لأعيادنا الكريمة من خلال رفع الأسعار وضغطنا في ظل غياب الرقابة والوعي والمعايير والآليات الواضحة.
في الغرب يرغبونك ويحببونك في الأعياد عبر العروض المغرية والسخية، ناهيك عن التخفيضات، بينما يبرع تجارنا في استنزاف جيوبنا بلا رحمة.
بعض المحال الأمريكية تضع لك في بطاقة الأسعار لأي منتج تتصفحه قبل موسم التخفيضات سعره الحالي وسعره في موسم التخفيضات المقبل لإشعارك بحجم الخصم المنتظر.
هذه الأخلاق التي يفترض أن يتحلى بها تجار المسلمين. لكن مع الأسف الكثير منهم يبحث عن أي طريقة للضحك عليك.
أحد أصدقائي اشترى أطباقا بسعر مرتفع من متجر في ليفربول ببريطانيا، وفوجئ عندما زار المتجر بعد أسبوع واحد بتخفيض في السعر وصل إلى 20 في المائة. قال للبائع وهو يتحسر: ''لو كنت أعلم عن هذا التخفيض لما اشتريته الأسبوع الماضي بسعره المرتفع''. فعلق البائع: ''إذا كنت تملك الإيصال بإمكانك إعادة الأطباق، وشراءها بسعرها المخفض''. وهذا ما قام به صديقي بالفعل.
يأتي موسم الأعياد في الغرب وتتحول كل المدن إلى مهرجانات فرح. مصابيح تشعل المدن بهجة، وابتسامات تضيء الوجوه. في المقابل، كلما اقتربت أعيادنا ازداد التوتر والتشنج والقلق، في المنازل والشوارع.
أرباب الأسر غير قادرين على الإيفاء بمستلزمات الأبناء، والتجار يحاولون قدر الاستطاعة أن يمتصوك حتى آخر قطرة.
أعيادنا لم تعد أعيادًا. أصبحت أزمة سنوية للكثير من البيوت. نحتاج إلى أن نعمل معا في سبيل إحياء الأعياد التي سمعنا عنها في سيرة المصطفى وصحابته. تلك الأعياد المليئة بالرحمة والتكافل والابتسامة التي نفتقدها. نفتقدها بشدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي