أطفال السجناء

كانت الشمس تميل للمغيب. خرج في ذلك اليوم من القرية طفلان بعد أن توفي أبوهما، وبقيا تحت رعاية أمهما التي حاولت أن توفر ما يسد حاجة الأسرة المكلومة بجهدها وبحسنات أهالي القرية، ولكن الحياة أصعب من أن تحل إشكالاتها بدراهم معدودة. تقدم لخطبة الأم أحد رجال الأعمال، وكان يكبرها بأكثر من عشرين سنة. وافقت لأنه ليس هناك حل أمامها سوى إيجاد مصدر دائم يضمن حياة كريمة لطفليها.
كان شرطها الأساس هو بقاء طفليها معها، وهو ما تحقق لها. لحسن حظ هذه الأسرة الصغيرة تعلق قلب الرجل بزوجته، وليكسب المزيد من ودها، اهتم بالطفلين اللذين يمثلان كل شيء بالنسبة للأم. تعلم الأبناء في أفضل المدارس في وقت كان التعليم رفاهية لا يحصل عليه سوى الصفوة. انطلق الأخوان بعد ذلك للعمل في مجالات مختلفة. عمل واحد في القطاع الخاص وعمل الآخر في القطاع الحكومي. يعتبر الاثنان اليوم من أثرياء منطقتهما، بعد أن بكت كل عجائز الحي وهن يشاهدن خروج الطفلين مع أمهما، ويتأملن المستقبل المؤلم الذي ينتظرهما، نهاية سعيدة.
يتبنى الزميل الكاتب النجيب، ورجل الأعمال اللبيب نجيب الزامل مع إخوته مؤسسة خيرية سمّوها ''العودة إلى الجذور''. تحدث عنها أستاذنا في أمسية ولا أجمل في منزله العامر. تهتم هذه المؤسسة بإعادة أبناء السعوديين الذين تركهم آباؤهم للمصير المجهول خارج الوطن، على الرغم من أنهم أبناء زواج شرعي وموثق في سفارة المملكة.
بدأت المؤسسة باستنقاذ الأبناء المتروكين في الفلبين، حيث دعوا من خلال الصحف كل من تنطبق عليه المواصفات للتقدم بغرض التعرف على حجم المشكلة ومساعدة أكبر عدد ممكن. ذكر نجيب عددا لا أجرؤ على ذكره ممن تنطبق عليهم الشروط التي ذكرتها هنا. حضر اثنان منهم في تلك الأمسية وكانت سعادتهما تغطي المكان وعبرا باستمرار عن الامتنان على هذه المبادرة. والبقية تتبع، وهي نهاية سعيدة للبعض. لكن لماذا لا تعمم من قبلنا نحن؟
في نهاية الأمسية، عرضت على أستاذنا أن أقدم خدماتي التي هي محدودة لهذا الغرض النبيل، وكم من أسرة ستنقذ سمعتها، وكم من مواطن سيسعد بعودته لبلده الأم، بل حتى إن منح هؤلاء الجنسية سيكون من قبيل التعويض عن العقوق الذي أظهره الوالد تجاههم. أعتقد أنه يقول للعالم إننا قوم لا نترك أبناءنا فريسة الظروف والقهر الاجتماعي والحاجة.
أظن أن من المناسب أن يفتح راعي المؤسسة حساباً يشابه حساب إبراء الذمة الذي يتبع وزارة المالية. يودع أولياء أمور هؤلاء الأبناء المبالغ التي يستطيعون، لضمان أن تقوم المؤسسة بدورها الرائد في إعادة الأبناء ومنحهم الجنسية وتعليمهم وتوظيفهم. هذا أقل ما يمكن أن يعمله أب ترك أبناءه كل هذه السنين. ليس من الضروري أن يفصح المودع عن هويته، بل يمكن أن تلتزم المؤسسة بضمانات السرية، لكن النهاية ستكون بحكم تكفير ذنب ترك الأبناء والبنات.
على أن هذا المجهود يجب أن يكثف من قبل مؤسسات خيرية أخرى، فالأعداد كبيرة والدول كثيرة، وأتوقع أن يكون راغبو التكفير كُثُر، إن هم رجعوا لأنفسهم وفكروا في عاقبة أمورهم في الآخرة.
إن حرمان الأبناء والبنات من حقهم الشرعي جريمة أخرى تضاف إلى جريمة الترك في بلد الغربة، حيث لا قانون سوى الأحكام الوضعية. لا بد هنا أن أذكر أن هناك جهداً حكومياً في جمعية ''أواصر''، لكنني لا أؤيد أن تقوم الدولة بدور المجتمع المدني الذي يجب أن ينشط في المملكة، وقد يكون هناك من يتخوفون من التعامل مع الحكومة - بطبيعة الحال.
قرأت بالأمس أن الحالة ليست مقصورة على الأبناء المتروكين في الخارج. هناك حالات يداهمها الخطر داخل المملكة تعرضت لها الصحافة المحلية، وهي حالات أبناء السجناء الذين يتم إيقاف حقوقهم، ويتركون ليواجهوا مصيرهم لأي سبب من الأسباب، خصوصاً في العائلات التي تعاني سوء سلوك الوالدين، وهم الفئة الأكثر انتشاراً بين المسجونين لأسباب أخلاقية أو ما يشابهها.
إن ترك أطفال كهؤلاء لمصير مجهول مع أب أو أم غير سويين تعتبر المشكلة الأسوأ منها أن يُفقَدَ أي من هذين الرمزين في الأسرة، فتتحول مجموعة الأبناء إلى مشاريع جريمة في المستقبل. ليست لدي معلومات محددة عن الأعداد، ولكن بحسب شكاوى المسؤولين من الاكتظاظ، ونسب القبض العالية، خصوصاً في جرائم الترويج والمتاجرة بالمخدرات التي أوصلتها بعض الإحصائيات إلى 30 في المائة من المجموع الدولي، إضافة إلى الشتات الذي يعيشه المجتمع السعودي كل هذا يستدعي أن تتولى الجمعيات الأهلية بالتعاون مع الشؤون الاجتماعية البحث والتقصي وتقديم الحلول المناسبة لهؤلاء الأطفال الذين ليس لهم جريمة سوى ارتباطهم الأسري. فلنجعل كل النهايات سعيدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي