حقق أمنياتك
حضرت قبل فترة الملتقى الأول للجمعية الوطنية للمتقاعدين، وأصدقكم أنني فوجئت بكم النقاش، وحِدَّة التعبيرات التي كنت أسمعها. كل من يداخل كان يتحدث بشفافية وصراحة لم أتعودها في ملتقياتنا ومؤتمراتنا التي تنظمها عادة جهات رسمية. الأغلبية كانوا من حاملي الشهادات العليا ومن شغلوا مناصب مهمة وكان لهم أثر في مجتمعاتهم ووزاراتهم.
الأكيد أن الكثير ممن ناقشوا وجادلوا وارتفعت أصواتهم لم يكونوا كذلك قبل التقاعد. استمر تأثير تلك الصراحة والانفتاح في مجموعات أشارك فيها مع هؤلاء النخبة. استمر انتقاد الوضع القائم واستعجال الحلول، وكثرة الاقتراحات والمبادرة بالأفكار مسيطراً حتى في مجموعات ''الواتساب''. حتى ليخيل للقارئ أنه في مجموعة كل المشاركين فيها من الشباب.
خالف ما أراه كل المفاهيم النمطية التي تعودت عليها ونظرة المجتمع لكبار السن، بهدوئهم وميلهم للراحة وابتعادهم عن الجدال وتركيزهم على جزئيات أهمها العناية بالصحة. يسعدني تغيير أشاهده لدى الكثير من كبار السن يشمل ممارسة الرياضة والسفر واللقاء بالزملاء بشكل شبه يومي، هذه الجزئيات التي زاد عليها لقاء مكة المكرمة الحيوية والنشاط والصراحة.
حصل المتقاعد على ''إفراج'' من سجن المجاملة ومسايرة الأمور لأسباب وظيفية أو اجتماعية. إن سمات مجتمعنا المتحفظة التي تركز على إرضاء الآخرين دفع الكثير للتصريح بما يخالف قناعاتهم، والسير مع التيار لضمان البقاء والارتقاء. بل إنك تعايش الديمقراطية والصراحة والنقد المباشر عندما تقرأ مداخلات هؤلاء السيدات والسادة، وهو تحول كبير في أسلوب الخطاب قبل وبعد كرسي ''الحلاق''، بل، وتعمق التغيير مع مرور الوقت.
هذا التغيير الكبير له ما يبرره مما ذكرت سابقاً. لكن صديقاً عرض مختصرا لكتاب ألفته ''بروني وير'' وهي ممرضة أسترالية عملت عند العديد من كبار السن قبل وفاتهم، وكانت تسألهم في آخر أيامهم عن أشياء ندموا على عملها أو أشياء تمنّوا أنهم عملوها بطريقة مختلفة. تكررت خمس إجابات فصلتها ''بروني'' في كتاب عن أكثر خمسة أمور ندم عليها كبار السن، وتُرجم إلى 27 لغة حتى الآن. جاءت الأمنيات على الترتيب التالي:
أولاً: ''تمنيت لو كانت لديّ الشجاعة لأعيش لنفسي ولا أعيش الحياة التي يتوقعها أو يريدها مني الآخرون''. هذا منبع الشجاعة الأدبية التي شاهدتها وهو كذلك أساس ما نراه من بعض كبار السن عندما يسافرون و يستمتعون بوقتهم بشكل أكبر من السابق، ولكن المجتمع ما زال يحارب حرية التعبير في أمور كثيرة منها اللبس والرسميات التي قد لا يقتنع بها أكثر من يلتزمون بها. هذا الندم طور التمرد على النمطية اليوم، وهو ما يلاحظه من يقارن بين كبار السن اليوم والأوائل. هذا كان غالب ما قاله مَن عملت معهم السيدة وير، حيث عبّر الكثيرون عن أسفهم لعدم تحقيق أحلامهم أو حتى نصفها، كل ذلك بسبب أن حياتهم كانت تتمركز بشكل أو بآخر على إرضاء الغير.
ثانيًا: ''تمنيت أنني لم أعمل بجهد ومشقة كما كنت أعمل''، وهذا الجواب جاء خصوصًا من الرجال الذين مارسوا العمل الروتيني حيث عبّر الكثير منهم عن خسارته أشياء مهمة منها الرفقة والأصدقاء الذين يخففون عن الإنسان الكثير من المعاناة. وفي المقابل أيضاً عبّرت بعض النساء عن قريب من ذلك خصوصاً مَن فقدت العائل وقت الكِبَر. قد يكون أثر هذا الموضوع مركزاً على بعض فئات كبار السن لدينا ولكنه ليس بحجم ما يحدث في الدول الأخرى.
ثالثًا: ''تمنيت لو كانت لديّ الشجاعة لأعبّر عن مشاعري بوضوح''. يكبت الكثيرون مشاعرهم و آراءهم لسبب أو آخر كالرغبة في تجنّب الصدام مع الآخرين، وهؤلاء الأشخاص عاشوا مراوحين بين الذات والآخر دون أن يكونوا كما يريدون. الكثيرون كان لديهم الاستياء والمرارة المستمرة التي كانت ترافقهم بسبب كبت المشاعر. وقد يكون هذا العنصر في مرتبة أعلى لدينا بسبب شخصنة كل شيء وعدم الإيمان باختلاف الآراء.
رابعًا: ''تمنيت لو بقيت على اتصال مع أصدقائي خصوصاً القدامى الذين تعذّر تجديد الصداقة معهم''. كان هناك ندم عميق على عدم إعطاء الأصدقاء ما يستحقونه من الوقت مما أدى إلى فقدانهم وصعوبة استرجاع ودهم.
خامسًا: ''تمنيت أن أكون أكثر سعادة''. لعل أهم العناصر ضبابية هي قضية السعادة، فهناك من اعتقد أن السعادة يجلبها المال وآخرون رأوها في المنصب أو الوجاهة الاجتماعية، القليل بحثوا عنها في عمل ما يحبه الإنسان والاحتفاظ بعلاقة قوية مع الأسرة والبحث عن الجديد من خلال تجربة ما لم يتعودوا عليه، ولعل الخوف هو أكثر جالب للبؤس، الذي يحرم الإنسان من معرفة ما يحب وأن يفعله بغض النظر عن آراء الآخرين.
فليبحث كل واحد منا عما يسعده ويملأ حياته ويحقق أحلامه لأن العمر إلى زوال.