التسول الاحترافي

لم يكد إمام الجامع ينهي ثاني تسليمة حتى قفز أحدهم من الجهة اليمنى في الجامع ليقدم قضيته للمصلين، ويستعطف قلوبهم ليعطوه ما تجود به أنفسهم في شهر الخير والعطاء، لم أتابع ما كان يقول لبعده عن مكان جلوسي. قام شخص آخر في الجهة اليسرى بكل ثقة منتظراً أن ينهي زميله "دفوعاته". ثم انطلق بلسان عربي مبين، تحدث عن الخلافات بينه وبين عائلته وما استخدموه من السحر للإضرار به، دعا عليهم بما يستحقون ثم أوضح لنا ما نتج عن السحر الذي اقترفه أقاربه: جلطة وأمراض نفسية أدت إلى دخوله إلى مستشفى خاص لا يحلم أغلب من كانوا يحضرون الصلاة أن يمروا أمامه.
يعول الرجل زوجتين و16 فردا - حسب روايته - عرض فواتير العلاج ثم استشهد بآيات قرآنية كريمة وأحاديث شريفة على فضل إعانة المسلم، وأقسم بالله أنه يستحق الزكاة والكفارة والصدقة والنذر وأي نوع آخر من الأموال التي يمكن أن يقدمها المسلم. فصاحة الرجل كانت تحسد لكنني أستغرب جرأته وهو يسأل الناس، ما يدل على أنه "محترف". أكمل الناس ركعتي ما بعد الصلاة وما زال بعض المتسولين يتكلمون ويطالبون.
خرجنا من المسجد، كان المتسول البليغ قد اختار موقعاً مميزاً في آخر صف في المسجد. رأى أحدهم موقعه وتعاطُف الناس معه فجلس عن يمينه، فنهره صاحب البلاغة. ذهب المتسول إلى الجهة الأخرى، فنهره وبدأ بينهما تنافس. فالمتسول الجديد يمتاز بشكله الذي يدفع الناس لتقديم المزيد، وهو ما دفع بصاحبنا ليرفع صوته وهو ينهر المتسول الجديد. في مؤخرة المسجد كان هناك ستة متسولين آخرين، وفي الخارج جلست ثلاث نساء وأطفالهن يتسلون حولهن.
الأكيد أن كل المتسولين ليسوا من السعوديين. يعني ذلك أن الحملة التي فرحنا بها جميعاً لم تؤت ثمارها في مجال التسول. الدفع بمزيد من الرجال والنساء والأطفال إلى المساجد والشوارع خلال الشهر الفضيل دليل واضح على أن هناك عمليات إدارة احترافية للتسول، وهو ما يحتاج إلى علاج حاسم.
أرى العلاج يتمثل في عدد من الإجراءات التي تشارك فيها جميع الجهات الأمنية والاجتماعية، الرسمية وغير الرسمية. تبدأ المسؤولية في مواقع أساسية، أولها المسجد. إمام المسجد لا بد أن يحصل على تعليمات واضحة يتمكن من خلالها من مقاومة أعمال التسول الاحترافية. يمكن أن تسهم فروع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بتكوين وثيقة تعليمات يتبعها الأمام ويتعاون معه على إنجازها المؤذن ورواد المسجد.
تغطي وثيقة مكافحة التسول أعمال مثل التعرف على الأشخاص الذين يراهم الإمام يتسولون داخل المسجد أو خارجه. يمكن أن توضح الوثيقة طريقة للتواصل مع الجهات المعنية بحيث تصل المعلومة إلى الجهات الأمنية وممثليات وزارة الشؤون الاجتماعية. من خلال هذا التواصل يمكن الوصول إلى المحتاجين الحقيقيين وإلحاقهم ببرامج الضمان الاجتماعي، والجمعيات التعاونية. وفرز مدعي الحاجة والتعامل معهم بطريقة تضمن عدم عودتهم للتسول.
الإجراءات التي تتخذها الجهات الأمنية يجب أن تجتث المشكلة من أصولها. فمن لديهم إقامات نظامية، يجب أن تلغى إقاماتهم ويسفرون، المهم أن يحرم كفلاؤهم من استقدام العمالة بالطريقة التي ترى مناسبتها الجهة الأمنية. أما الذين لا يحملون إقامات نظامية فيجب أن يخضعوا للتحقيق للتعرف على طريقة دخولهم وسبب بقائهم، والوصول إلى أصول عمليات التهريب التي تسببت في كثير من الجرائم.
المسؤولية الأكبر تقع في تنظيف المساجد من عمليات التسول التي تشغل المصلين وتسيء للوطن، وقد تؤدي إلى نشوء سوق لتشغيل الأطفال والنساء، وتنشر جرائم أخطر كالزنا واللواط والسرقات وتصنيع الخمور، ونشر الأمراض من خلال تلك الممارسات وغيرها في المجتمع.
بقي أن يقوم أفراد المجتمع بدورهم في إصلاح الحال. إن عدم دفع الأموال للمتسولين عند إشارات المرور وفي الأسواق، سيسهم دون شك في تقليص انتشار المتسولين في كل مكان نذهب إليه. أتمنى أن تنتشر حملات في "اليوتيوب" و"تويتر" و"فيسبوك" وغيرها من وسائل التواصل على غرار حملات المطالب، يكون هدفها تنظيف شوارعنا وأسواقنا من هذه الآفة التي تستمر في التغلغل والزيادة كسرطان خطير.
يؤسفني أن أزور دولاً خليجية وأجنبية وعربية ولا أجد فيها هذا الكم الكبير من المتسولين، بل إنني قضيت في دبي عشرة أيام لم أر متسولاً واحداً برغم أن نسبة الأجانب في تلك المدينة تتجاوز 90 في المائة من السكان. التحكم في حركة الناس وممارساتهم وما يشتغلون به من أعمال هو ضرورة لا بد أن تهتم بمتابعتها كل جهات الاختصاص، ولا بد أن يتعاون معهم الجميع لإزالة هذه الصورة المسيئة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي