الهاشتاق القضية .. الراتب لا يكفي الحاجة
قضية دخل موظفي الدولة في المملكة وفي كل دول العالم حديث مستمر للمجتمع، ومؤشر مهم للوفرة المالية في الدولة. لكنها في المملكة والدول العربية تأخذ بعداً أكبر بسبب التزام الدولة بتوظيف النسبة الأكبر من القوة العاملة. على أن الأجور في القطاع الخاص في معظم الدول تعتبر أعلى مما تدفعه الدولة، وهذا عكس ما هو موجود لدينا.
لو سألت أي موظف في العالم: هل يكفيك راتبك ؟ فأغلبيتهم ستجيبك بالنفي، وينطبق على هذا مثل معروف في الحجاز يقول: ''كلٌ بعقله راضٍ، أما رزقه لا''. يدفعنا هذا لقراءة مختلفة للهاشتاق الذي انتشر خلال الأيام الماضية بعنوان ''الراتب لا يكفي الحاجة ''. من ناحية مبدئية لنضع مفهوم عدم القناعة بالدخل كسبب لانتشار هذا الهاشتاق.
ذلك أننا لو نظرنا للموضوع من جوانب أخرى كما ذكر بعض المفسرين والمتناولين لموضوع الهاشتاق، سواء من رأوا فيه مؤامرة على الدولة، أو إرجافاً، أو محاولة للضغط على متخذ القرار، أو استغلالا للظروف في الدول المجاورة، أو حتى من رأوا فيه إشغالاً للناس عن قضايا أهم. لو نظرنا إليه من جوانبه غير المادية فسندخل في نقاش عقيم، وسيستمر الاختلاف.
هل يكفي الراتب؟ شخصياً، أنظر للموضوع من ناحيتين. الأولى مادية بحتة والأخرى قد تكون أكثر علاقة بالفلسفة غير المحسوسة. هذا يجعل الجزئيتين مهمتين في تكوين رأي عن الراتب وحجمه وأثره في تحقيق توقعات الموظف. على أنه لا بد أن نأخذ في الاعتبار أن المجتمع السعودي فيه مجموعة من المتناقضات التي لا تنطبق على دول أخرى. من ضمن هذه الاختلافات عدم اهتمام المجتمع بالربط بين الدخل وعدد المعتمدين على الشخص. قد تجد شخصاً راتبه لا يتجاوز ستة آلاف ريال ومع ذلك متزوج باثنتين وله أكثر من عشرة أطفال، والعكس لمن هم في مستويات دخل عليا. كما أن الكثير ممن تناولوا القضية لا ينطبق عليهم موضوع عدم وفاء الراتب بالاحتياج بشكل فعلي، حيث إن مستخدمي الإنترنت في الغالب هم من مستويات تعليمية أعلى، ووضع اقتصادي أفضل.
الحديث عن الناحية المادية يدفعنا للنظر فيمن يعيشون حياة أعلى من مستواهم الوظيفي والتعليمي. تجد الواحد – الواحدة – يتابع الموضة، ويحاول أن يستخدم أرقى العلامات التجارية (ماركات) سواء في الملابس أو الساعات أو السيارات أو الأثاث أو حتى السكن. يعاني مجتمعنا إشكالية كبيرة في التقليد الذي يدفع بالكثيرين للاقتراض للوصول لمستويات أعلى من مستويات دخول من هم في المستوى الوظيفي نفسه في دول أخرى. الماديات والإسراف في متابعة ما يفعله الأغنياء يصل لمستوى قضاء الإجازات في دول أوروبا وآسيا والصرف ببذخ في السكن والمتعة هناك. هنا لا بد أن يبقى الراتب أقل من الحاجة.
يضاف إلى هذه الجزئية أن الاقتصاد يعتمد في أغلبه على دخول موظفي الدولة، وهو ينتعش بارتفاع الأجور، وعليه فكلما زاد الراتب زادت الالتزامات، وهي قضية تجعل من زيادة الرواتب قلقاً لا يحمي منه سوى التدخل الحكومي في حفظ مستويات الأسعار، بل وقد يكون من الحلول إبعاد جشع التجار من خلال السيطرة على منافذ البيع بالتجزئة من قبل مؤسسات الدولة كالجمعيات التعاونية.
نأتي لقضية أخرى وهي ''البركة ''، وهي قضية غير مرئية ولا يمكن أن يثبتها أحد إلا بالربط بين حال الناس المتساوين في الدخل. عندما تجد شاباً في السابعة والعشرين يبني منزلاً، ويخطط لتنفيذ مشروع معين أو يدير أعمالاً له، بينما زملاؤه في الشقة نفسها يبدأون في الاقتراض من أصدقائهم بمجرد وصول اليوم الخامس في الشهر، فإن هناك سراً.
البركة هي ما يبحث عنه الجميع. تبدأ البركة بتحليل الراتب، عندما يعمل الموظف يومين أو ثلاثة في الأسبوع، أو يتأخر عن العمل أو يهمل في واجباته الوظيفية، فهو يدفع بنفسه نحو الحاجة، فلا بركة في راتب لا يؤدي صاحبه التزامات وظيفته. بل إن البركة تنتج عندما يشعر الإنسان بأنه بذل جهداً للحصول على هذا الدخل، فهو في الغالب سيصرفه بعقلانية أكثر. ولهذا تجد البركة في رواتب القطاع الخاص أكثر منها في الدولة.
يمكن أن يدخل التخطيط للمصروفات كجزء مهم في بركة الراتب. عندما تطلب الأسرة الطعام من المطاعم بشكل شبه يومي، ويقوم الشخص بأعمال لمجرد أنه يرغب في ذلك في لحظة معينة فهو يدفع بنفسه نحو الحاجة. كما أن مفهوم الادخار من الراتب -مهما قل- أساسي في زيادة بركة الراتب.
خلال فترة متابعتي للهاشتاق ''القضية''، لاحظت أن الكثيرين لم يروا في زيادة الراتب حلاً للمشكل الاقتصادي للأسرة. أوافق أنا على هذا المفهوم، فزيادة الرواتب ستؤدي بالضرورة إلى زيادة الصرف كما أسلفت هنا. أظن أن أفضل ثلاثة قرارات يمكن أن تتخذها الدولة في مجال حماية الأسرة ودخلها هي:
- إيجاد آلية وقوانين ضامنة لخفض نسبة البطالة وتوفير الوظائف للمؤهلين من المواطنين، وهذا ما لم يناقشه الكثيرون، فالموظف لديه راتب مهما قل، أما العاطل فهو الذي يعاني فعلاً.
- التسريع بمشاريع توفير المساكن للمواطنين، ووضع التشريعات التي تضمن حصول كل مواطن متزوج على وحدة سكنية تلائم حجم أسرته. فوجود السكن هو الضامن الأهم للاستفادة من الراتب بالشكل الصحيح، فالسكن يقتطع نسبة كبيرة من دخول الأفراد.
- ثم وضع حد أدنى للأجور يتفاعل مع نسبة التضخم في الاقتصاد.