ما عقوبة التلاعب في العقود؟
فاجأني خبر قرأته صباح اليوم، وكنت سمعت عنه منذ يومين يقول: صرح مصدر مطلع أنه تم سحب صلاحية ثلاث قيادات حكومية تلاعبت في ترسية عقود قدرت بملايين الريالات، وتم سحب الثقة من هذه الشخصيات من قبل جهتين حكوميتين يعملون فيهما بعد اكتشاف تلاعبهم في ترسية العقود. لم أجد من رد سوى القول المصري الدارج "يا لهوي".
لا أدري من أين أبدأ في تحليل الخبر الكارثة؟ الواضح هنا أن الخبر يحتمل الصدق والكذب، وأتمنى أنه كاذب فعلاً. لأن وجود مثل هذه الإشكالية في القطاع العام, بعدما دخلت كل التقنيات، وبعدما تم تحديث نظام المنافسات والمشتريات الحكومية، وبعدما تم تشكيل لجان المنافسات، وفتح مظاريف، ودراسة العروض، واللجان الفنية، ولجان الترسية، وإلزامية موافقة وزارة المالية، وإلزامية إرسال نسخ المحاضر ووثائق المنافسات لعدد من الجهات الرقابية. بعد كل هذا، كيف يمكن أن ترسى منافسة بطريقة خاطئة أو فاسدة؟
يأتي في المقام الثاني هنا وجود هذه الحالة في جهتين حكوميتين وليس جهة واحدة فقط، وتلك قضية مختلفة. فلو فرضنا أن الأولى جهة غير منظمة أو فيها من الفساد ما فيها أو تتأثر بقرارات جهات أعلى منها أو يجامل المسؤولون فيها على حساب وظائفهم، فذلك أمر سيئ، لكن أن نكتشف أن أكثر من جهة تقع فيها تلك التجاوزات التي لا يمكن تبريرها، لما هو موجود من قوانين ومسؤولين عن الطرح والدراسة والترسية، إضافة إلى وجود ضوابط قانونية فرضتها الدولة قبل مرحلة الترسية وتوقيع العقود. أكثر من جهة تعني أن هناك ثغرة حقيقية لا بد من كشفها، وإصلاح المشكلة التي يمكن أن تسببها.
قراءة مثل هذا الخبر تستدعي - بالتأكيد - النظر إلى هؤلاء المسؤولين الذين ارتضوا لأنفسهم دمار السمعة وسوء الخاتمة. لكن هل هذا صحيح؟ لا أظن ذلك. ليس هناك من يتقبل أن يخسر سمعته وسمعة من حوله بهذه السهولة. هذا يعني أن من أقدموا على هذه المخالفة كانوا يجهلون أنهم يرتكبون مخالفة، وهذا أمر ضرره على القطاع العام ككل، فكيف يعين شخص على وظيفة وهو لا يعرف التزاماتها، ولا يقدر حجم المسؤولية وأنواع المخالفات التي يمكن أن ترتكب. بل إنْ جهل المسؤول الأعلى، فهناك مختصون يراجعون كل ما يهم القطاع، ويعطون الرأي القانوني في كل خطوة. علاوة على أن الشغل الشاغل للمسؤولين اليوم هو المشاريع ومشكلاتها وتعثرها، ما يعني ضرورة أن يفهم المسؤول ما ينتج عن قراراته.
أما المشكلة الأكبر هي إنْ كان هؤلاء يعلمون أنهم يخالفون النظام.
إن ارتكاب المخالفة بقصد وعلم وترصد يعني أن المسؤول يعلم – بالضرورة – أنه لن يعاقب على ارتكاب المخالفة. فمَن أمن العقوبة سيفعل الكثير مما يمكن أو لا يمكن تخيله. أي أنه سيصبح لدينا خبراء في التجاوزات والإجرام النظامي. هذه هي الحالة التي أتوقع أنها تنطبق على هؤلاء المخالفين. وصدقوا أو لا تصدقوا، هذا ما حدث فعلاً.
"سحب صلاحيات"، يالها من عقوبة مؤلمة! فبعد أن اعترف أحد الموظفين أن هناك تلاعباً في المنافسات، لم يجد المسؤول عن إصلاح الوضع سوى سحب الصلاحيات، ليقنن المخالفة، ويدفع الآخرين لارتكابها ما دامت العقوبة لن تغير موقعه الوظيفي، ولن تؤثر في مستقبله، ولن تسيء إلى اسمه أو سمعته. بل أتوقع أن يصبح المخالف مرجعية في كيفية الحصول على مزايا من خلال التلاعب في المنافسات وترسية العقود.
يجب ألا تبقى مثل هذه القضايا داخل أسوار الإدارة العامة أو الوزارة. يؤدي عدم التعامل القانوني مع المخالفات من قبل الجهات المختصة إلى إدخال عناصر في القضية تؤدي إلى تخفيف العقوبة أو إلغائها، بناء على العلاقات الشخصية والتعاطف بين الزملاء، وهو ما يجعل الوزارة ضحية للمزيد من المخالفات التي تستمر التغطية عليها لتصل إلى مرحلة عدم إمكانية العلاج .. هل سمع هؤلاء بمفهوم تقاطع المصالح؟
يجب أن تكلف الجهات المختصة بالتعامل مع جميع المخالفات، فإن ثبت إدانة أحد بارتكاب مخالفة نظامية، لزم أن يعاقب بالطريقة التي تحقق حماية المصلحة العامة ومنع انتشار المخالفة وردع من يفكر في ارتكاب مثلها. إن الموظف العام مطالب بكم كبير من النزاهة وهو يتعامل مع عقود ومشتريات وميزانيات بمئات الملايين، بينما راتبه يكاد لا يكفي احتياجاته. تساعد على تحقيق ذلك التوعية المستمرة وتشجيع السلوكيات القويمة، وتطبيق الأنظمة التي تكشف المتلاعبين وتوضح مخالفاتهم والعقوبات التي طبقت عليهم، وتطلع الجميع عليها.