«عطني إثباتك»
كنا ننتظر وصول كاتب عدل. عددنا يزيد على عشرة أشخاص. الغرفة صغيرة وأماكن الجلوس تكفي ستة أشخاص. الجميع في المبنى منذ الصباح، انتظرنا للحصول على إحالة، ثم حولنا إلى ناسخ، ثم توجهنا أخيراً لكاتب عدل قبل موعد الأذان بربع ساعة. لم يكن موجوداً، ولهذا توجه الجميع للمسجد على أمل أن يعود كاتب العدل بعد الصلاة.
عدنا بعد الصلاة لنجد المكتب مشرعا، ولكن بدون موظفين. وصل الموظفون وبعدهم بقليل فتح باب ''المختصر'' ليدخل كاتب العدل. بدأ باستقبال المراجعين، فجأة وصلت معاملة وصاحبها يلهث ليلحق بها، بدا من ملامح المراجع أنه ذو جاه، وبقيتنا لم يكونوا كذلك. كما ظهر عليه ''الالتزام'' بعلاماته المعروفة لدى كل السعوديين. الأهم أنه كان معروفاً لدى كاتب العدل. دخل ''القهوجي'' يحمل الدلة ''المهيلة والمزعفرة'' وثلاثة فناجين، أظن الجميع أخذوا يخمنون من هو الثالث الذي سينال حظاً من هذه الدلة، الجاذب ريحها.
تعازم الضيف والكاتب على أول فنجان ولكن، كما هو طبعنا العربي الكريم، أصر الكاتب على الضيف أن يأخذ الفنجان الأول، ثم أخذ هو الفنجان الثاني، ودار حديث بينهما من قبيل المجاملات المعروفة. في الأثناء، أكمل الناسخ الموجود أمام كاتب العدل معاملة الضيف وتم توقيعها وختمها وتسجيلها. غادر الضيف دون أن يحصل أي واحد من الحضور على الفنجان الثالث الذي قد يكون دوره هو إبراز صوت حركة الفناجين الأخرى.
أحد الحضور كان متضايقاً، بدأ يتحدث عن التسيب وتعطيل المعاملات وكيف أن السلوك هذا لا يرضي ولي الأمر. وكان الرجل في عقده السابع وظهرت عليه علامات مرض السكري، وأكد أنه منذ الصباح ينتظر في مكان لا تتوافر فيه خدمات ولا مواد يمكن أن يتناولها من يحتاجون إلى ذلك، فتأكد لي أنه ممن يعانون هذا المرض، وهم كثر في مجتمعنا. استمر في النقد، وصوته يعلو شيئاً فشيئاً، ونحن نتمنى أن يسكت. كان الجميع متخوفين من أن ''يفصل'' كاتب العدل، ويقرر التوقف عن العمل.
استدعى كاتب العدل الرجل وطلب منه إثباته (بطاقة الهوية الوطنية)، فقدمها بكل شجاعة. ثم بدأت محاضرة كاتب العدل عن الصعوبات التي يواجهونها وضرورة احترام موظفي الدولة، وخطأ رفع الصوت. صمتنا وتوقفت حركتنا وكأن على رؤوسنا الطير، حتى بعض من انتقدوا تأخر الكاتب، أصبحوا أكثرنا تأدباً ونظروا إلى أرض المكتب، وكأنهم يريدون أن يكتشفوا عيباً فيها. طلب الكاتب من المواطن الجلوس وترك هويته عنده، مهدداً ''أنا أوريك شغلك''.
أسقط في يد الرجل. خرج من المكتب، وبدأ يتصل بكل من يعرف للخروج من هذه الورطة. غاب عنا فترة ثم عاد ليقف عند الباب، بعد أن أخذ كرسيه شاب قد يكون في سن أحفاده. الواقع المؤسف أن أحداً منا لم يفكر في منح الرجل مقعده رغم كبر سنه، وما زلت أتأسف على ذلك، لكن السبب قد يكون ميل المجتمع نحو البحث عن النجاة وعدم الارتباط بشخص ''فيه شبهة''.
جاءت مكالمة على جوال الكاتب، رد عليها بكل احترام، أنهاها بكلمة ''أبشر طال عمرك''، استدعى الكاتب المواطن وسلمه هويته ونصحه بالتزام ''النظام'' واحترام الموظف العام. اعتذر الرجل بمرضه وطول مدة انتظاره. لكن الكاتب أنهى الحديث ووجهه للعودة إلى مكانه في الانتظار. آن في ذلك الوقت موعد معاملتي فقفزت بكل أدب، وأنهيت المطلوب ووقعت، وخرجت فرحاً بالسلامة.
بالأمس انتشر مقطع في ''تويتر'' عن مسؤول في إحدى الدوائر الحكومية أوقف سيارته في موقف المعوقين الملحق بإدارته. وبالمناسبة، فأكثر الدوائر الحكومية ومرافق الخدمات تضع مواقف للمعوقين، لكنها لا تلزم موظفيها ''بالدرجة الأولى'' بالانضباط واحترام غرض المواقف، فهي أقرب للموضة؟ لكن الأسوأ هو أن تستغل لاستقبال الضيوف عندما تمتلئ المواقف بالسيارات.
جاء رجل معوق وعندما وجد السيارة في الموقف المخصص له، بدأ يصور المشهد ويعلق بأن هذه السيارة مخالفة، عندما رآه ''حارس المواقف''، سأله : لماذا تصور؟ فذكر له أنه معوق وهذا الموقف من حقه. رد عليه أخينا برد مقنع للغاية وهو أن هذه السيارة تخص مسؤولا كبيرا في الإدارة، عذر أقبح من الذنب. وهذا ما أراد المعوق أن يوضحه للحارس، لكن الحارس أخرج سلاح ''هات إثباتك''. انتهى المقطع هنا ولا أدري ماذا كان من حال المعوق والحارس والمسؤول.
أقول.. ينبغي أن يكون كل موظف أو صاحب صلاحية على علم واستيعاب كامل لدوره في خدمة المواطن. كون النظام يحمي العاملين، ليس سبباً يسمح لهم بمخالفة النظام. كيف يستقيم أن يكون حامي النظام مخترقاً له من الجهة المقابلة! إن التهديد باستخدام صلاحية معينة لحماية مخالفة هو من أخطر أنواع الفساد الإداري. ذلك أنه يقود إلى ارتكاب مخالفات وتغطيتها بغطاء قانوني لا علاقة له بها. تتطور مثل هذه السلوكيات لتتحول إلى قضايا خطيرة.