ماذا بعد عودة نواز شريف إلى السلطة؟

انتهت مهرجانات الانتخابات النيابية الأخيرة في باكستان، وفاز من فاز وخسر من خسر، لكن البلاد لم تتغير ولن تتغير كائنا من أمسك بالسلطة فيها؛ لأن مشكلاتها مزمنة وعصية على الحل. ولا نبالغ لو قلنا إن باكستان غارقة اليوم في فوضى غير مسبوقة منذ انسخلالها عن الهند البريطانية في 1947. فالإرهاب يضرب في كل مكان غير مفرق بين المسلم وغير المسلم أو المواطن وغير المواطن، والاقتصاد منهك، والبطالة في ارتفاع والخزائن خالية من العملة الصعبة، والمشاحنات الطائفية والجهوية والعرقية مستفحلة بين السنة والشيعة، وبين السنديين والبنجابيين والبشتون والبلوش والمهاجرين القوميين (المتحدرين أصلا من أقاليم موجودة في الهند)، والطاقة شحيحة إلى حد انقطاع الكهرباء عن الوزارات والدوائر الرسمية لفترات تصل إلى 20 ساعة يوميا، الأمر الذي دعت الحكومة معه موظفيها إلى إغلاق أجهزة التكييف والامتناع عن لبس الجوارب لكيلا تصيب روائحها العفنة المراجعين بالغثيان والدوار.
لم تكن هذه هي باكستان التي تمناها القائد الأعظم محمد علي جناح يوم أن قرر سلخها عن الهند ليقيم دولة الأطهار (معنى باكستان باللغة الأوردية) المسلمة كي تكون نموذجا لبقية العالم الإسلامي.
صحيح أن نواز شريف الذي يتزعم اليوم حزب الرابطة الإسلامية، وهو امتداد للحزب الذي أسسه جناح في ثلاثينيات القرن الماضي ليواجه به حزب المؤتمر الهندي بقيادة المهاتما غاندي، قد عاد إلى السلطة بحصده 126 مقعدا برلمانيا (من أصل 254 مقعدا)، وحقق طموحه المستتر بالانتقام ممن أبعده ذات ليلة عن الحكم في انقلاب عسكري سريع لم ترافقه قطرة دم واحدة، ونعني به الجنرال برويز مشرف القابع اليوم تحت الإقامة الجبرية بجملة من التهم التي تراوح بين إهانة السلطة القضائية والتخلص قتلا من زعيم سياسي بشتوني، والضلوع في اغتيال رئيسة الحكومة الأسبق بي نظير بوتو في عام 2007.
لكن ما يجعل شريف في غير مأمن من العواصف، لكيلا نقول الاغتيال والإطاحة به بانقلاب عسكري آخر، ليس فقط الظروف الاقتصادية والأمنية الصعبة التي تعيشها بلاده، إنما احتمالات ألا تتعاون معه القوة المهيمنة على مقدرات البلاد من خلف الكواليس أي المؤسسة العسكرية (ومعها جهاز الاستخبارات الحربية المنيع) التي حكمت باكستان أكثر من نصف سنوات استقلالها، وخرج من رحمها خمسة من زعماء البلاد وهم: إسكندر ميرزا ومحمد أيوب خان ويحيى خان وضياء الحق وبرويز مشرف. فمؤسسة الجيش قد لا ترضى بوجود رمز من رموزها الكبار كالجنرال مشرف مقيد الحركة، ويتعرض للإهانة والانتقام السياسي على يد سياسي مدني ينتمي إلى أسرة إقطاعية كشريف، خصوصا أن علاقة الأخير بالعسكر شابها التأرجح صعودا وهبوطا منذ أن دخل المعترك السياسي في عهد الجنرال ضياء الحق.
فمثلا قد لا ينسى الجيش أنه دعم شريف يوما ما باعتباره محسوبا عليه، ناهيك عن كونه خدم في جهاز الاستخبارات في الثمانينيات، فما إن وصل إلى السلطة وشعر بالجماهير ملتفة حوله حتى طالب بإرساء نظام ديمقراطي مدني لا نفوذ للعسكر فيه. وقد لا ينسى الجيش له أنه حينما كان رئيسا للحكومة في عام 1999 أجبر أحد أنزه جنرالات الجيش (رئيس الأركان الأسبق جهانغير كرامت) على الاستقالة بسبب خلافات سياسية، هذا قبل أن يخطط بسرية تامة للإطاحة برئيس الأركان التالي برويز مشرف أثناء وجود الأخير في سريلانكا، وهو ما جعل مشرف يقطع زيارته ويعود فورا للاستيلاء على السلطة، قاطعا بذلك الطريق على شريف لفرض سيطرته التامة على المؤسسة العسكرية عبر تعيين ضباط موالين له من إقليم البنجاب.
ومن مآخذ الجيش الأخرى على شريف أنه عقد صفقات سرية أكثر من مرة أثناء فترتي حكمه مع الجماعات المتشددة المعادية بصفة عامة للمؤسسة العسكرية المنعوتة من قبل هذه الجماعات بمخلب الشيطان الأمريكي وأداته في محاصرة الصحوة الإسلامية وتحجيمها، هذا ناهيك عن جنوح شريف نحو تطبيع العلاقات مع العدو الهندي أثناء فترة تزعمه الحكومة بين عامي 1997 و1999، واستغلال موقعه كزعيم مهاب في البنجاب لتلطيف حدة عداء سكان هذا الإقليم تجاه الهند.
ومن هنا قيل إن تعاون الجيش مع شريف مرهون بثلاث قضايا: طريقة تعامله مع المتشددين والإرهابيين المنتمين لحركة طالبان باكستان، وتعيين قائد جديد للجيش يحظى بالقبول خلفا للقائد الحالي الجنرال أشفق كياني الذي ستنتهي ولايته في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وإجراء تحققيق شفاف في الظروف التي أدت إلى إلحاق نصف هزيمة للجيش الباكستاني على يد نظيره الهندي خلال أحداث كارغيل عام 1999.
على أن العقبات أمام شريف لقضاء فترة هانئة في السلطة لا تأتي فقط من الجيش المتربص دوما بالساسة المدنيين، إنما أيضا من غريمه التقليدي المتمثل في حزب الشعب بقيادة الرئيس آصف علي زرداري. صحيح أن الأخير سيغادر موقعه في أيلول (سبتمبر)، حيث سيكون بمقدور شريف - بفضل مقاعد حزبه في البرلمان ومجلس الشيوخ - أن يأتي بأحد أعوانه كرئيس للجمهورية. وصحيح أن حزب الشعب (أو حزب آل بوتو) لم يفز بالأغلبية إلا في معقله الرئيس في إقليم السند، ومني بخسائر فادحة في أقاليم البنجاب وخيبر وبوختونخوا وبلوشستان (بدليل انخفاض عدد مقاعده من 92 مقعدا في البرلمان السابق إلى 32 مقعدا في البرلمان الحالي)، الأمر الذي دفع كبار رموزه ابتداء برئيس الوزراء السابق يوسف رضا كيلاني، وانتهاء بسفيرة باكستان في واشنطن شيرين رحمن إلى تقديم استقالاتهم من الحزب، لكن الصحيح أيضا أن العداء المستحكم بين حزبي الشعب والرابطة الإسلامية، الذي يغذيه التنافس والنفور التقليدي ما بين السنود والبنجابيين، يدفع الأول إلى التربص بالثاني بشتى الوسائل، خاصة أن شريف لا يخفي حقده على آل بوتو بسبب قيام الرئيس الأسبق ذو الفقار علي بوتو في 1972 بتأميم أملاك عائلته المستثمرة في صناعة الحديد في البنجاب.
والجهة الثالثة التي ستفسد لا محالة على شريف فرحة فوزه بالسلطة هي حزب تحريك إنصاف بقيادة لاعب الكريكيت السابق عمران خان، الذي حل ثانيا في نتائج الانتخابات الأخيرة، من بعد نجاحه في حشد الجماهير خلفه، ولا سيما تلك المتذمرة من إخفاقات الساسة الإقطاعيين، والمتطلعة إلى بث دماء جديدة في السلطة. فهو ما برح يطعن في نتائج الانتخابات ويصفها بالمزورة، رغم فوزه الكاسح في كراتشي، مركز الثقل الاقتصادي للبلاد والمدينة التي تورد للخزانة العامة نصف إيراداتها السنوية. وهذه الحقيقة وحدها كافية للقول إن بإمكان عمران خان أن يعطل من خلال البرلمان وتحويل موارد كراتشي الكثير من أحلام شريف، خصوصا أن خان يحظى بتأييد طالبان باكستان بسبب موقفه الرافض لضرب معاقلهم بالطائرات الأمريكية من غير طيار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي