التنمية والتخطيط
في كثير مما يكتب عن التنمية والتخطيط لبس عجيب وكلام انطباعي أعجب منه، فهناك خلط معرفي وخلل منهجي في مقاربة دور التخطيط في التنمية ينهض على تصورات ذاتية دون منطلق موضوعي، يفترض أولا أن تكون مهام وزارة الاقتصاد والتخطيط حاضرة في الذهن من واقع ما قررته الدولة لها، ويفترض ثانيا أن تكون مادة التخطيط في وثائق خطط التنمية مصدرا ومرجعية.
غير أنني أجد أن الهرولة لنقد التخطيط يسبق كل ذلك حتى من قبل مختصين أكاديميين لهم باعهم وخبرتهم في الاقتصاد، إذ قليلا ما نجد إشارة إلى المهام أو إحالات إلى ما جاء من نصوص وطروحات في وثائق الخطط نفسها أو على موقع وزارة الاقتصاد والتخطيط أو حتى بالرجوع للمسؤولين فيها.
هذا واضح في كل مرة يتم فيها مناقشة تقرير من تقارير الجهات الحكومية في مجلس الشورى، فسرعان ما تتجه الملامة على النقص أو التأخير إلى الوزارة، فيما دورها في الواقع لا يتعدى مراجعة هذه التقارير التي تأتي من الجهات نفسها في ضوء ما ورد في خطط تلك الجهات، بعد إخضاعها إلى إطار منهجي ينتظم تقارير متابعة كل الجهات وسيتم بعد ذلك رفعها لمجلس الوزراء الذي بدوره يحيلها لـ ''الشورى''.. وهنا يقع اللبس عن التأخير أو النقص، فالتأخير يحدث لأن هناك زمنا يستغرقه التقرير من مجلس الوزراء إلى ''الشورى''، أما الملاحظات على المحتوى فتخص الجهات التنفيذية نفسها المسؤولة عن إنجاز المشاريع المعتمدة في خططها بجدولتها الزمنية، فالصحة، والتعليم، والبلديات، والإسكان وغيرها هي صاحبة الشأن أولا وأخيرا فلديها إداراتها الفنية لهذا الغرض.
وعلى نحو آخر ظل يتم تناول مسألة مواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات التنمية ولم يتم التركيز على أن المخرجات والمواءمة سياسة تعليمية تركتها الجهات التعليمية في مسار نمطي، فيما كان المطلوب دفعات جسورة قوية تواكب التحولات الكبرى في تنميتنا، والتطورات الهائلة عالميا في المعارف والعلوم ومناهجها، أما البطالة وفرص العمل فقد لقيت اهتماما خاصا من خادم الحرمين في قراراته في هذا الشأن، وتبذل وزارة العمل في تفعيلها جهدا مشكورا.
وإذا كان تنويع القاعدة الاقتصادية مرتكزا جوهريا منذ الخطة الخامسة فإن التعويل على تحقيقه يدخل في صلب مهام جهات بعينها مثل: وزارة الصناعة والهيئة العامة للاستثمار وهيئة المدن الاقتصادية وغيرها ممن تكتظ خططها بمشاريع يفترض أن تجد طريقها إلى النور بصرامة في الاختيار لإنتاج اقتصاد حقيقي قادر على المنافسة يفتح الآفاق رحبة أمام فرص عمل ثرية المورد عميقة التأثير.
فوق ذلك ففي كثير من الكتابات عن أي مشكلة أو قضية نواجهها يلاحظ الإصرار على المناداة لوضع الاستراتيجيات والآليات مع أن معظم جهاتنا العامة والخاصة لديها ذلك، غير أني أحسب أن ذلك يحدث ربما من باب القول السهل والخطاب الجاهز.
القطاع الخاص يحتل موقعه المهم والمتزايد عمقا وسعة في بنية التخطيط للتنمية من خلال التخطيط التأشيري كأسلوب يمثل خريطة طريق لمشاركات هذا القطاع كي يلتحم بالأهداف الأساسية والسياسات الاستراتيجية التي ترتكز عليها خطة التنمية ويتفاعل مع الرؤية الكلية للصورة المستقبلية للاقتصاد الوطني المستهدف تحقيقها جنبا إلى جنب مع قطاعات الدولة.
هذا المسار لعلاقة التنمية بالتخطيط منذ أول خطة للتنمية بقي يعاني إعلاميا من اللبس والانطباع بسبب عدم الانطلاق من المهام والمرجعية والمصدر.. بلغ معه أحيانا عدم التفريق بين تخطيط المدن ووزارة الاقتصاد والتخطيط، ناهيك عمن يثابر على تسميتها ''بالتخطيط والاقتصاد''، فضلا عن الخلط بين دورها كجهاز فني لاعتماد الخطة وليس لتنفيذها.. يقع في مثل هذا اللبس مع الأسف حملة شهادات عليا!