الاقتصاد الإسلامي.. والرفاه المنشود حقا للبشرية
لو درس اقتصاديو الغرب والشرق بفقه وصدق ونصح الاقتصادية الإسلامية الشاملة, المُشْبِعة لغريزة الفرد في التملك وتنمية موارده, والمُلبّية لحاجة المجتمع ورفع ضعفائه, لأدركوا أنه لا نظام في الأرض كهذا النظام العادل المحسن ''ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون'' فالشيوعية حملت بذور دمارها في جوفها أينما رحلت, وحيثما استقلّت, وكذلك الرأسمالية الليبرالية - وبوجه أخص الكلاسيكية منها والشيكاغويّة الجديدة التي هي عمدة اقتصاد العالم الآن - لكن سقوط الشيوعية المدوي السريع كان لمصادمتها الفطرة بدرجة أشدّ من الرأسمالية التي تعثّرتْ مرارا، لكنها غيّرت جلدها ولوّنت نهجها حسبما تقتضيه مصلحتها، ومصلحتها فقط ولو بأكل أبنائها! كما في الكساد العالمي الكبير 1929 والانهيارات الاقتصادية العظيمة التي فاقت قيمة خسارتها قدر الدمار بعد الحرب العامة الأولى! ونتج عنها 100 مليون عاطل! وانهار النظام النقدي العالمي برمّته بسبب سحب الودائع الكبيرة من البنوك العالمية الرئيسة! ومن هناك أعلنت أمريكا عام 1930 إلغاء تغطية الدولار بالذهب حتى اليوم, وما زالت من 40 سنة تبيع العالم الورق والوهم كُرهًا! حقًا إنها شريعة غاب!
ومن أمثلتها كذلك الأزمة المكسيكية، وهي أول إفراز مباشر للعولمة الاقتصادية وظهور أنياب السوق الحرة، إذ خنعت المكسيك لخطة صندوق البنك الدولي من خلال تطبيقها برامج التكيف الهيكلي, بكل ما فيه من جشع الكبار وسلبهم لقمة الفقير, واتّبعوا سياسة السوق الحرّة, وحكومة الحد الأدنى, والخصخصة, ومنع حماية الشركات المحلية بالقانون الجمركي.. وكان حصاد تلك الوصفة الليبرالية المشؤومة خسارة الشركات المكسيكية الأصيلة 70,000,000,000 دولار من قيمتها السوقية! وفقد 250,000 مكسيكي وظائفهم بنهاية 1995 وماذا بعد؟ هل أصلح صندوق النقد الدولي ما أفسد, تأبى ذلك شيمة الرأسمالية, إذ هربت رؤوس الأموال بعدما سلبت مقدرات البلد, وارتفت الأسعار وزاد التضخم وخيّم الإفلاس أو كاد.
وانظر إلى الكارثة الاقتصادية المدمرة للنمور الآسيوية في أواخر التسعينيات, والكساد الأمريكي الذي أعقبته أزمة السكن عندهم, فبات الناس في الحدائق والغابات! كذلك انهيار اقتصاد بعض الدول الأوروبية في زماننا كاليونان وإسبانيا وإيطاليا بسبب الأزمة العالمية الحالية الخانقة.. ويستحيل أن تهبّ الرأسمالية لأجل المجتمعات الإنسانية إلا إن كان ذلك مدرًّا لها أو مانعًا من كوارث تلحق بها, أو تقلل من الأسواق المستقبلة لها. وللكلاسيكي الشهير روبرت مالتس: ''إن على المجتمع أن يرفض تقديم الإحسان أو الإعانات إلى الأسر التي تعجز عن تدبير وسائل معيشتها''، بل يرى هذا المادّي الأناني أن الحروب والمجاعات وتحديد النسل ونحوها مفيدة لتحقيقها التوازن بين سكان الأرض ومواردها. وما علم أن من خلقهم قد تكفّل برزقهم ''ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم'' وتأمل كيف قدّم ذكر رزق المواليد والأجنّة قبل رزق آبائهم, فالرازق لهم جميعًا هو الخالق لهم .. لكنها المادّية الملحدة!
لقد قام الاقتصاد الغربي وأتباعه منذ القرن الثامن عشر على مبدأ النفعية البراجماتية والميكافيلية والفردية, بعد أن وجّهها أبو الاقتصادية الرأسمالية آدم سميث عبر كتابه الشهير ''ثروة الأمم''، وإن حدث هروبٌ كبير للطرف المعاكس الماركسي في ردّة فعل طبيعية حتى سقوطها في أخريات القرن الماضي، وقامت حينها بوجهها الصريح (الكلاسيكية الحرة) ولمّا ظهر جشعها المنحاز للأغنياء على حساب الأعم الأغلب ممن دونهم من الشعب غيّرت جلدها بالكينزية الاجتماعية، وهي أرحم بكثير، لكن الطبع يغلب التطبّع, فلم تلبث بعد أربعة عقود أن انقلبت على نفسها عائدة لجلدها الطبيعي باعتناقها مبادئ فريدمان وأصحابه من الكلاسيكيين الجدد (النيوليبراليين) أرباب مدرسة شيكاغو بتطبيقاتها التاتشرية والريجانية التي لم تخرج في حقيقتها عن خطوط ''ثروة الأمم'' حتى الآن!
لقد أضحت الرأسمالية كالسدّ المتشقّق الذي ملأته جداول الماء الصغيرة, فلا يلبث أن يسقط سقوطًا مدويًا محدثًا دمارًا على قدر القرب من مركزه. ويتبعه السقوط لذلك الفكر المتوحش الأناني الجشع.
ويا ليت أهل الاقتصاد يعرضون وينشرون فقه الاقتصاد الإسلامي على المستوى العالمي, ففيه الرفاه المنشود حقًّا للبشرية جمعاء. وأن يبيّنوا للعالم أن لا فائدة من زيادة الإنتاج إذا لم يقترن بالرفاه الاجتماعي العام، فالرفاه العام ليس متعلقا بكمية الناتج العام فقط, بل كذلك بمقدار ما يتعلّق بكيفية تقسيم هذا الناتج على الأفراد. لذا فقد قرنت شريعة الإسلام التنمية بالتوزيع العادل, فلم يكبل الفرد ولم يهمل الجماعة.
إن المحرّك الأول لدول الاستكبار الغربية هو المال, أمّا الدين فقد جعلته مطيّة لها, كما جعلته عدوًّا لها، بحسب بوصلة الذهب، فهي في حقيقتها مُلحدة ماديّة, لا تؤمن إلا بعبودية الإنسان لنفسه, مع شيء من بقايا دينهم المحرّف, في ازدواجية متناقضة يسوقها التعصب لا الإيمان. فهي في جوهرها ليبرالية وحشية غازية متغطرسة, يظهر هذا في أن جُلّ أو كل حروبها في هذا العصر أسبابها اقتصادية في المقام الأول. وإنا في حاجة إلى قراءة عميقة هادئة لمآلات الاقتصادات العالمية, والنظر إليها بنظرة اقتصادية سليمة مستقيمة, بريئة من دمار الربا ومحق الطمع. وحُقّ لنا أن نخاف ونتوجّس من العولمة الاقتصادية, وما يصاحبها من عولمة فكرية وسياسية, وبما أن الاقتصاد هو محركهم في الأساس؛ فلا بد من الحصانة الذاتية, وبناء السدود المضادة ببرنامج اقتصادي محلي, حقيقي لا وهمي, وصادق لا كاذب, وناصح لا غاش, ولنكمل ما بدأناه بالاقتصاد البنائي في الصناعة, ولنصحّح مشاكل التعثّر والفشل. ولنحافظ على شركاتنا المحدودة من هجوم العولمة والشركات الطائرة وسياسة السوق المفتوحة التي تحلّ علينا آكلة ما في أيدينا, وقاتلة لفرص شركاتنا المحلية الصاعدة, ثم تهرب عند أول لمحة اهتزاز بعدما أكل الكبد والسنام!
ولسنا في حاجة إلى تنظير؛ بقدر ما نحن في حاجة إلى قرار وإرادة.