الواقع الاقتصادي للجواسيس
عند النظر إلى مهن أعضاء شبكة التجسس، نجد أن دخولهم الشهرية أضعاف ما يتقاضاه نظراؤهم في إيران، الدولة التي لحسابها يتجسسون. فالمعلومات تقول إن الجواسيس يمتهنون الصيرفة والطب والعمل الأكاديمي إضافة إلى العمل السياحي. والعمل في هذه القطاعات الحيوية يتطلب قدرًا كبيرًا من الانضباط الشخصي والالتزام الوظيفي، أحد الجواسيس أمضى 20 عامًا في وظيفته، وترقى حتى أصبح مديرًا لأحد فروع مصرفه. فما الذي دفع هؤلاء لأن يتآمروا على بلادهم التي قدمت لهم ما عجز ملالي طهران عن تقديمه لمواطنيهم. الشواهد التاريخية تشير إلى أن مسموم الفكر يزداد خطرًا على مجتمعه ومحيطه كلما زاد ماله وعلمه ومنصبه، كما يسعى مسموم العقل إلى تسخير إمكاناته المتوافرة لتمرير فكرة الملوث والهدام لتحقيق أجندته الشريرة. والحقيقة أن دوافع الجواسيس لم تكن مادية أبدًا، فدخولهم الشهرية عالية، كما لم تكن دوافعهم نتاج ظروف اقتصادية صعبة نشأوا فيها، كما لم تكن نتاج تمييز عرقي أو طائفي أو مذهبي مُورِسَ عليهم كما تدعي بذلك دمى إيران في المنطقة، ولكنها نتاج فكر متطرف هدام غذيت به عقولهم منذ نعومة أظفارهم، وبطريقة مكثفة أصبحت معه عقولهم لا تستوعب الحقيقة، وعيونهم تكذب الواقع المشاهد الذي يعيشونه، والذي خانوه.
فالواقع الاقتصادي والوظيفي المريح جدًّا لأعضاء شبكة التجسس يأتي تأكيدًا على بطلان المزاعم التي يروج لها البعض بأن هناك نهجًا لممارسة الطائفية والمناطقية في توزيع الوظائف والمناصب، بينما الواقع المُشاهَد يؤكد أن الكفاءة فقط هي المعيار الذي يحدد موقع كل فرد في منشآته. ولن يغير افتضاح أمر هذه الشبكة في هذا الواقع قيد أنملة، فتساوي حقوق المواطنة أمام الجميع نهج سعودي لا يقبل النقاش ولا المساومة تحت أي ظرف كان. وهذه الحادثة تؤكد أن سلوك الفرد المنضبط في منشأته وبين أقرانه ليست معيارًا يؤخذ به على سلامة فكره وخلوه من التطرف والسموم. كما أن افتضاح أمر هؤلاء الجواسيس يؤكد أن ارتقاء السلم العلمي والوظيفي لا يؤدي بكل الأحوال إلى سمو فكري وانفتاح عقلي. وعليه لا بد من مجابهة الأفكار الهدامة والشاذة بطريقة شفافة وعقلانية وشجاعة قبل استفحالها ورسوخها في عقل المستهدفين بهذه الأفكار. هناك من يستغل مساحة الحرية (الإيجابية) في بلادنا لبث أفكار مسمومة بعد تغليفها بطابع ديني وعقائدي، وبطريقة ممنهجة ومكثفة، وهؤلاء متى ما تم تذكيرهم بسوء ما يقومون به، يسارعون بعويلهم وبكائهم المعتاد، بأنهم يتعرضون لكبت في الحريات وللمحاربة الطائفية والمذهبية وللإرهاب الفكري، مع أن أحدًا لم يتطرق لمذهب أحد أو معتقده لا من قريب أو بعيد، ولكنها حجة المراوغ التي يعلو صوته بها، والمتضرر الأكبر من هذا الواقع من يسقط ضحية امتلاء عقله بهذه السموم.
هناك من يطبق بأنيابه على عقول شبابنا وبناتنا في القطيف والعوامية والبحرين الشقيقة، وهؤلاء يملكون من أدوات التأثير الكثير، وهم أقدر على تمرير سمومهم وأفكارهم الهدامة من كل العقلاء الوطنيين الذين تخفت أصواتهم مقابل ضجيج هؤلاء المتآمرين، والواقع المُشاهَد يؤكد هذا. وهؤلاء الأشرار، يملكون من أدوات التأثير ما يمكنهم من تصوير ملالي إيران على أنهم المخلص والمنقذ للأمة، ويملكون القدرة على تصوير أوطانهم التي تحتضنهم على أنها الشر المحض الذي لا بد من التعاون مع ملالي إيران ضده. وسبق لي في مقالات سابقة سرد عدد من الأمثلة على ''تغليف السم بالعسل''، وليس المجال هنا لتكرار ما سبق أن أوردته. إننا في حاجة ماسة إلى توجيه فكر مضاد لسموم هؤلاء الذين يسعون لتأليب أبنائنا في القطيف والعوامية على أوطانهم، فهؤلاء لا ينبغي تركهم ليعيثوا في عقول أبنائنا فسادًا، فيكبر الأبناء وتترسخ في عقولهم هذه الأفكار الموغلة في الكراهية ضد وطننا العظيم الذي قدم وما زال وسيظل يقدم كل ما من شأنه رفعه مواطنيه دون أي تفرقة بينهم.
إن الواقع الاقتصادي والوظيفي لأعضاء شبكة التجسس يأتي تأكيدًا على بطلان الادعاء بأن هناك ممارسة للتفرقة المناطقية والمذهبية ضد أيًّا كان، كما يأتي تأكيدًا على أن علو شأن الفرد المادي والوظيفي والعلمي ليس مؤشرًا ولا دليلًا على خلو الفرد من الفكر المسموم الهدام، بل إن توافر المادة والمنصب لمن يمتلئ عقله بالضغينة والكراهية خطر على الجميع لما يملكه من أدوات لتحقيق غاياته المريضة. وعلى جميع الشخصيات التي تدفع نحو تأزم الوضع في بلادنا أن تعلم أن أقصى ما قد يلحقونه ببلادنا تلوث الهواء بضجيج أصواتهم النشاز، التي لا يطرب لها إلا الشيطان وملالي إيران ومن يدور في فلكهم.