هل حان الوقت لاقتراض الحكومة؟
لعل البعض متابع للجدل الاقتصادي والأكاديمي في الدوائر الأمريكية حول بحث راينهارت روجوف في العلاقة بين الدَّيْن العام كنسبة من الدخل القومي والنمو الاقتصادي حينما تصل نسبة الدَّيْن إلى 90 في المائة أو أكثر من الدخل القومي الإجمالي. هناك تبعات وجدل على أثر ظهور بحث جديد كشف بعض الأخطاء الحسابية والإحصائية وشكوكاً حول طبيعة العلاقة.. وإذا ما كانت العلاقة مصاحبة أم أنها تسببية في الربط بين الدَّيْن والدخل القومي؟ يأتي هذا الجدل في وضعية جديدة تتسم بتغير مالي واقتصادي إيجابي في أمريكا وحتى طمأنينة على الأوضاع الاقتصادية عالميا عدا أوروبا، وإرهاصات قد تدل على بداية ارتفاع في أسعار الفائدة على خلفية أسعار فائدة متدنية تاريخياً وأقل من نسبة التضخم "من مصلحة المقترض على حساب المُقرض". يا ترى ما احتمالات رؤية سياسة مالية جديدة في المملكة في ظل هذه الأوضاع؟
في أثناء عملي لدى مؤسسة النقد في أواسط الثمانينيات شهدت انحسار الرصيد وتزايد الدَّيْن العام في ظل أسعار فائدة عالية نسبياً على خلفية أوضاع ليست مريحة سياسياً في المنطقة، وحالة اقتصادية في المملكة من معالمها حجم الاقتصاد المتحفز لحقبة جديدة من المصروفات والحاجة الملحة إلى الاستمرار في إكمال البنية التحتية، ما اضطرت الحكومة إلى الاقتراض في الوقت الخطأ على الرغم من أن الأغلبية العظمى من الدَّيْن كانت داخلياً "لمؤسسة التأمينات والتقاعد" وبعض المصروفات خارج الميزانية إلا أنه يبقى ديناً وسعراً قياسا على أسعار فائدة الخزانة الأمريكية. فكان الدَّيْن في الوقت الخطأ قياساً على تطورات أسعار النفط وحاجة الحكومة، ما أعاق التنمية لمدة تصل إلى أكثر من عقد. الشاهد بين الدراسة وتجربتنا أن للدَّيْن مكاناً، ولكن الأهم الربط بين التمويل والإدارة الاقتصادية.
في ظل هذه الخلفية وحقيقة أن أسعار الفائدة مناسبة جداً في الوقت الراهن للمقترض، وأن تصنيف المملكة السيادي عالٍ، ومما تذكرنا وزارة المالية أن لديها خططاً واضحة للمشاريع والمصروفات، لعل الوقت مناسب للاقتراض، خاصة للمؤسسات المستقلة نسبياً، مثل "الكهرباء" و"أرامكو" و"سابك" وهيئة الطيران المدني "كانت هناك بداية" وحتى وزارة المالية. فهناك مصلحة مالية مباشرة، وكذلك لعل الدَّيْن يساعد على الانضباط والربط مع تقليص الدعم لاحقاً في حالة تطور تنسيق أفضل بين وزارتَيْ المالية والاقتصاد. وألا تأتي الدعوة للاقتراض في أوضاع مالية مريحة تاريخياً، حيث لدى المملكة رصيد مالي يعادل نحو ثلاث ميزانيات متتالية، ولكن دخل متواضع جداً من الرصيد المالي، ولذلك فإن هذه الدعوة ليست مخالفة للعقلية التقليدية فقط، ولكنها تفترض أننا على شفا درجة أعلى من التنسيق ورؤية جديدة يكون مركزها النظرة الاقتصادية والاستثمارية وليست المالية. يتصف المشهد المالي اليوم بأنه مناسبٌ للاقتراض وقليل العائد على السندات "وخاصة المحافظة مثل المملكة"، ولكن هذه الصورة ستتغيّر حتماً كما عوّدتنا الدورات الاقتصادية والمالية. تأتي ملاحظات برنانكي وآخرين لترشدنا إلى أن تغييراً جديداً قد يبدأ حثيثاً في رفع السلطات أسعار الفائدة، كذلك هناك حاجة إلى الاستعداد إلى أخذ أعلى مخاطر محسوبة، استطاعت المالية إرجاء النقاش حول الصندوق السيادي بعد أن أسَّست شركة سنابل برأسمال متواضع قياساً بحجم الصناديق السيادية في العالم وآفاق استثمار محدودة عالمياً. نأمل ألا يذهب درس الثمانينيات سدى وتختصر التجربة في كنز مالي ثابت قليل العائد وغير مرتبط حركياً مع الاقتصاد وغير متفاعل مع استحقاقات التمويل والاستثمار.
حان الوقت لتغيير اقتصادي ومالي يكون قوامه رغبة صادقة في نموذج تنموي محركاته إنتاجية ماليا وبشريا. النموذج الجديد يوظف الأموال للأهداف الاقتصادية وليس جدول مصروفات وحرزاً للتوفير وحرصا غير مُسعر للسيولة دون نظرة استراتيجية شمولية. لذلك فإن السؤال مشروعٌ لنقاش حي حول توقيت وحجم وطبيعة الاقتراض وربطه بتصوّر جديد.