الوطن.. هناك!
للوطن معنى فريد بدلالات ثرية ورؤى قدسية.. ما من مواطن إلا وتسكنه كثافة في ملكوت الروح وشغف في أعماق الشعور، معنى يدرك بالبصيرة ويُطال بالوجدان لكنه يتعذر على التعريف والتصنيف، سوى أنه كل الوهج وكل العبق وكل السمو.
في مقاعد الدراسة المبكرة كان معلمو مادة التعبير يكتبون على السبورة بيت شوقي "وطني لو شغلت بالخلد عنه .... نازعتني إليه في الخلد نفسي".
فتعتري أجسادنا الغضة رعشة عذبة ويخيل إلينا أن الكلمات الطبشورية تقدح برقا.. وكانت الأصابع الرفيعة ترتفع بحماس طري لكي يأخذ الواحد دوره في الحديث وزخم من الشحنات الانفعالية تريد أن تتدفق لتنظم في الوطن ملحمة عشق.. غير أننا ما إن نبدأ حتى نتلعثم.. يفلت منا معنى الوطن في بركان الشعور.
حالة البراءة هذه هي التعريف العفيف النزيه العفوي لمعنى الوطن.. أما أن تنازعنا إليه في الخلد أنفسنا، فذاك هو المعنى السرمدي الأبدي.
أقول هذا لأنني فزعت من صحويين وكومبارس وممانعين من الملة الأخرى، أصبح الوطن عندهم ليس هنا وإنما هناك.. في مكان آخر غير الوطن نفسه.. خذوا على سبيل المثال، موقف صحويين حين قررت الدولة تصحيح نظام الإقامة وضبط العمالة المتسيبة واللاشرعية، فقد أجهشوا بدموع التماسيح على ما سيصيب الغلابا والمساكين وأسرهم وبيوتهم التي ستنهدم وسيحيق بها البؤس.
مزايدة إعلامية غوغائية انتفخت بها أوداج حميتهم وغيرتهم الإنسانية بعاطفة عوراء نكراء.. كأنما وطنهم قد ارتكب إثما واقترف جريمة، أو أنه يحق للأوطان الأخرى أن يقع فيها الجميع سواسية تحت القانون، إلا وطنهم الذي ينبغي أن يظل مرتعا للمنحرفين والفاسدين والشذاذ وللتلاعب بمقدراته والخروج على قوانينه وأنظمته.. هذا الإجهاش الصحوي المزمن.. لم نره يوفر عويله في مساع خيرية للمحتاجين من أبناء وطنهم لبناء مبرات أو دور للرعاية أو مستشفيات أو مدارس ومكتبات أو إسكان.. ما عرفنا سوى الإجهاش على المنابر أو في مواقع التواصل الإلكتروني، وقبلها غرقت بلادنا بتجارة كتبهم وأشرطتهم عن كرامات الأفغان "وأخواتنا" في البوسنة والهرسك وامتلأت حوانيتنا بصناديق التبرع، إلى أن فرخ هذا التيار لعنة الإرهاب، وفطرت أكباد آباء وأمهات غرر بأبنائهم في هوجته.
كومبارس الممانعين من المذهب الآخر.. صعدنا بهم إلى فضاء دحض الشك وسماء حسن الظن في أن وطنهم خط أحمر، لكن هوى الملة غطى على بصائرهم وأبصارهم أو أنهم يتغطون بها، فالأمر سيان، فإذا الوطن صفوي التعريف وليس جزيرة العرب ومهبط وحي السماء.. وإذا المجد ما يقوله حزب الله لا ما تقوله سيادة الوطن.. موقف مخز يتقهقر فيه الوطن لهوى الملة.. أو أنه من الأساس متقهقر في نفوس هذا الكومبارس الممانع، وليس ذلك ارتباكا في الولاء فما من ارتباك حين لا يكون الوطن هو "الإمام"، وليس إماما معمما مهووسا في قم أو زعيم طابور خامس مكشوف الوجه واليد واللسان في وضح الليل والنهار، يغتصب أرضا عربية ويجعل منها إمارة فارسية في قلب لبنان.
وها هي جماعة الإخوان في مصر هواها أيضا فارسي.. وصار الوطن عندها هناك .. ألم يقل مرشد الإخوان السابق مهدي عاكف: "طز في مصر وأبو مصر واللي في مصر"، فيما كان المرشد الحالي محمد بديع قد قال: "أنا أكبر من رئيس الجمهورية" مسكونا بفكرة الإخوان عن "الخليفة". ومثل الإخوان سلفيو تونس الذين رفعوا في مظاهراتهم شعار "دولة الخلافة".
لقد كان الاستعمار وصمة عار فكرا وسلوكا، وكان المستعمرون ينتهبون البلدان لوطنهم.. ومن عجب أن الصحويين وكومبارس الممانعة وأشباههم يسترخصون أوطانهم لأوطان أخرى في استعمار مقلوب يفرط في اقتصاد الوطن وأمنه لمصلحة الغير.. فالوطن دائما عندهم.. هناك!