الرواحل.. والأرواح!
فذات شتاءٍ حائليٍّ، وقد انتصف موسم الوسميّ العَذِيّ، الشائق لأهل ارتياض البادية، وأزاهيرها النادية، خاصّة أن أمَدّها الرحمن بغيثٍ هتون، مشيتُ وصاحبي الهُوينى، بِيَدِ كلّ منّا عصا تنشطه في مشي الفيافي، نتطارح حديث المرابع، ونتشاكل أسمار اللطائف، وقد لاحت لنا على مَدِّ البصر أشباح مُدْبِرةٌ، لرجال ونساء وأطفال، تتزايلُ ظِلَالُهُم الطويلة على امتداد التُّربِ المرمريّ، فقلت متخيِّلاً حقائهم الآن وبعد مئة عام أو تزيد:
يا صاحبي ألا ترى أنّ حقيقة الإنسان بروحه لا بجسده الذي هو كالراحلة لها، وإن كان له عليها تأثير ضئيل لما بينهما من المشاكلة طيبًا وخبثًا، سعادة وشقاءً، وإلا فالخطاب أصالة موجَّهٌ للروح أما الجسد فتابعٌ، أرأيتَكَ سِنَّك وضرسك الذي اقتلعتَ، وظُفرك الذي قلّمتَ، وشعرك الذي حلقت، بل العضو إن قُطِعَ؛ هل تُحِسِّ بشيء من ذلك؟ كلا!
وعلى ذلك فما دامت الراحلة صالحة للركوب والارتحال فالروُّح متعلّقة بها، فإن طرأ عليها فساد وموت؛ رَحَلَتِ الروحُ لباريها، على ما فيها من حاجة للراحلة التي تنتظر مبعثها ونشرها! والله المستعان.
وقد ورد أن ابن عمر قال لأسماء معزيّاً أمام جثة ابن الزبير ولمّا تُقبر- رضي الله عنهم جميعًا: عليك بتقوى الله والصبر، فإن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله، فقالت: وما يمنعني من الصبر، وقد أُهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل!
نعم، إن مأزق الجهل بمكانةِ الروح وقدْرِها في الخليقةِ هو من أكبرِ أسباب الحيرة أثناء بحث العالمين الدؤوب، عن مصدر سعادة وكُنْهَ سرور لا يكاد الجسدُ يُحسُّ من ذلك إلا أقل مقدار! والحقيقة بين أعينهم لو كانوا يعلمون، بل إنها لتضجّ صراخًا من أجوافهم صُبحَ مَساء، دون أن يسمعوا ولو بِرِكْزٍ لصوتها!
لذا فلا عجب أن ينكص أغنى الناس وأترفهم في ملاذ الجسد على عقبيه باكيًا شاردًا حزينًا كئيبًا، يتكفّفُ الناس سعادة لم يجدها! يريد إشباع جَوْعَةِ روحه التي لم يتبين كنهها، ويروم إرواء عطش نفسه التي لم يتصالح معها، فما هي إلا مدّة تطول أو تقصر إلا ونراه قد انكفأ على سؤاله الحقيقي ''من أين؟ وإلى أين؟'' فأرداه حسيرًا يظنّ أنه متشحِّطٌ في دم موته، ولم يعلم أنه يتشرّب مزيد علقمٍ لنَفَقِهِ الذي أبى النورُ أن يضيء أرجاءَه!
اعتبرْ تِيكَ الأمور بما خطّه الفيلسوف الإنجليزي ـــ مُعَظَّمُ القومِ! ـــ براتراند رسل حين هتف قلمُه بكل حيرة قائلا: ''ماذا نقول عن الإنسان؟! أهو ذرّة من الغبار تزحفُ بلا حولٍ ولا قوّة على كوكب صغير ضئيل الشأن كما يراه الفلكيون؟! أم أن الإنسان حفنةٌ من الموادّ الكيماوية رُكّبت بطريقة بارعة كما يراه الكيميائيون؟! وأخيرًا: فهل الإنسان هو كما يبدو في نظر هاملت رفيع العقل لا نهاية لملكاته؟! أم أنه قد يكون هذا كلّه في آن معًا؟!''.
والجواب: أن الإنسان هو من وراء ما ذكر، فهو كائن كريم، خلق الله أصله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم كلّفه وكلّف ذريّته بحمل أمانة العبادة، وأمدّه بألطافه، ووعده الرضى والجنة إن أطاع، وأوعده السخط والعذاب إن عصى.. ولكن هذا الجواب لا يرتفع إليه أهل الكثافة الجثمانيّة ــــ لأنهم يعدّونها نزولًا ورجوعًا وتخلّفًا وخرافة! فلجوابهم إذن بمنطقهم حديث لاحقٌ ـــ إن شاء الله.
لقد ضلّ من حصر الإنسان في هذا الجسد الفاني عن قريب، وغفل عن المُكَوّن الرئيس له ''الرّوح'' وتجاهل رَغَباتها ورَهَباتها، وضروراتها وحاجاتها وكمالاتها. فالإنسان مخلوق من جثمانٍ طيني أرضي، بمثابة الراحلة والمطيّة، ونفخةٍ علويةٍ سماويةٍ، تلك هي الروح العليّة! فإن زكّى المرء روحه سبحت فيما خُلقت له من سعادة وعبادة، وإن تخلّفت بجذب الطين أشبهت أرواح الشياطين، فشاكلتها حقيقة بعدما شابهتها معنًى وعملا. وصدق البستيُّ إذ قال:
يا خادمَ الجسمِ كم تشقى بخدمتهِ
أتطلبَ الربحَ في ما فيه خُسْرانُ
أقبلْ على النفسِ فاسْتَكْمِلْ فضائلها
فأنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إِنسانُ
وأُراهُ قد أراد بالنفس الروح، ذلك أن القسمة لمكوّن الإنسان ــــ في ظنّي ــــ ثنائية، لا ثلاثية، فهو روحٌ وجسدٌ لا غيرُ، أما النفس ــــ وتسمّى الناطقة ــــ فهي مجموع الروح والجسد، لكنّها تنزِعُ للروحِ أكثر لعلاقتها بالإرادات والمشاعر، وهي ما تسمّى بالنفسانيات، أما الآلام واللذائذ الجسدية فهي أعراض جسم.
وهذه النفس قد تمرّ بمراحل فتكون حينًا أمّارة، وحينًا لوّامة، فإن رحمها ربُّها وباريها جعلها مطمئنة.
وقلتُ مُنشِدًا زبدة تلك الهواجس والخواطر والفِكَرِ:
أَقْبَلِتِ الْرَّوَاحِل
أَدْبِرِتِ الرَّوَاحِل
تَكَابَرَتْ فِي العَيْن
تَكَاثَرَتْ لِلْبَيْن
تَقَافَزَتْ أَشْبَاحُهَا
تَنَاثَرَتْ أَشْلَاؤُهَا
مَا تِلْكَ سِوَى أَجْسَادٍ
تَحْمِلُ أَرْوَاحَ الْبَشَر