المجد للبطالة وفرص العمل
فيضٌ من الكتابات والأحاديث لم ينقطع تدفقه على مدى سنوات متلاحقة عن تنميتنا واقتصادنا واستثمارنا.. أسهم فيه المختصّون وغير المختصّين، المسؤولون وغير المسؤولين، من حركته غيرته الوطنية ومن حركته ذاتيته، لكن المثير المدهش هو أن معظم الآراء تنتهي إلى هدف وحيد هو: تشغيل البطالة وخلق فرص عمل.. فالمدن الاقتصادية والمدن الصناعية.. لماذا؟ لتشغيل البطالة وخلق فرص عمل.. المنشآت الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.. مشاريع البنية الأساسية والاستراتيجية.. إعادة صياغة هيكلنا الاقتصادي وتنويع قاعدته.. جذب الاستثمار الأجنبي وتشجيع الاستثمار الوطني .. تطوير التعليم والصحة والقضاء.. التوجّه نحو اقتصاد المعرفة والعلوم والتقنية.. استخدام الطاقة الشمسية والذرية والمتجدّدة.. الارتقاء بالخدمات المصرفية والسوق المالية.. تنشيط المجال التجاري والتسوق والسياحة.. وهكذا.. لم يبق خرم إبرة في مجالات التنمية إلا وتم تناوله .. لماذا؟ لتشغيل البطالة وخلق فرص عمل.. بات مجد الكتابة والقول معقوداً لواؤه لها وحسب!
والسؤال هو: كيف يتم اختزال مفهوم التنمية إلى مجرد تشغيل البطالة وخلق فرص عمل فقط؟.. والاعتراض هنا.. ليس لأن ذلك غير مهم وجوهري، وإنما لأن هذا الاختزال يقطع الطريق على كل ما ينتظره المتلقي من منظور جديد كان يُفترض أن يقدّمه هذا المختص أو ذاك المسؤول، فالمتلقي لا يكاد يقبض إلا على رطانة اقتصادية يستنسخها أحدنا من الآخر لعناوين كبيرة تعوم بالتعميم والإجمال أو مصطلحات عن القيمة المضافة وزيادة الإنتاجية وتوسيع الطاقة الاستيعابية والاختلالات الهيكلية في سوق العمل.. وغيرها من متاريس لغوية تحجب الرؤية وتترك المتلقي في متاهة أشبه بلعبة الكلمات المتقاطعة التي لا يحلها إلا متمرسٌ في هذه الهواية.
إن انحباس الخطاب وانسداد أفقه في مناقشة قضايا التنمية ومشاريعها عند هدف تشغيل البطالة وخلق فرص عمل تقزيم مريع لمعنى التنمية الشاهق الهادف إلى استنهاض أشكال راقية متقدمة للحياة، وإحداث تحولات عميقة في بنية المجتمع تحقق القوة والاستقلالية والمناعة لهذا الوطن ككيان حضاري من خلال وجود ما هو نوعي مميز من صروح العلم والعمل التي يتحتم من أجلها النزول بمستوى الخطاب من فضاء التعميم إلى التحديد بالإشارة لاسم المشروع ومحتواه وعلاقته بغيره من المشاريع ودوره في تحقيق الاعتماد الذاتي والتصدير للأسواق الإقليمية والعالمية.
هذا يقتضي تعريف وإعراب الكلمات التي تتحدث عن أهمية منشأة أو نشاط، فليس يكفي أن نحاصر المتلقي بأهمية الاستثمار في القطاعات الإنتاجية أو الخدمية دون أن نقول له ماذا يعني هذا الكلام.. ودون أن نقدم له مثالاً يكون هو قلب الموضوع وقالبه والإفصاح عن دوره وقيمته في تأمين الحصانة الاقتصادية للوطن التي تنجم عن حصافة الدرس والاختيار لإنشاء هذا المصنع أو تلك التقنية أو هاتيك الخدمة.. أي أن يُقال لنا: ما هو؟ ولماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى.. لا أن يتهافت الحديث عن جدوى الإنشاء أو التطوير مهرولاً إلى هدف "تشغيل البطالة وخلق فرص عمل".. فذلكم تحصيل حاصل، نتيجة وليس هدفاً.. تأتي بالضرورة مع الإنشاء أو التطوير.. وإلا فهل من منشأة أو نشاط دون قوى عاملة؟!
إن الإسراف في التركيز على مقولة تشغيل البطالة وخلق فرص عمل والعزف الموقوف عليها يطيح بمفهوم التنمية ويقلبها من عملية شمولية سامية لصناعة التقدم والاستقرار والسعادة وتوسيع الخيارات أمام المواطن ليحصرها في توفير الدخل.. إذ رغم الأهمية القصوى للدخل فإن هذا المنحى في التناول يقترب بالتنمية لتكون مجرد ضمان اجتماعي طالما أن ما يكتب ويقال منقاد إلى العناوين الكبيرة لا تترجم إلى جردة بيانات ومعلومات توضح ما لا سبيل إلى إدراكه سوى بتشخيصه عينياً.. فالإلحاح على إنشاء قاعدة صناعية مثلاً.. لن ينفك غموضه ما لم نفصح بالتفصيل عن ماهية ما نريده بالضبط وليس باعتقاله في عموميات تهرول إلى مقولة تشغيل البطالة وخلق فرص عمل.. التي تسيء، في سياقها هذا، إلى نبل الطلب نفسه بتحويلها صانع التنمية إلى متسوّل عليها.. ولا أظن أن أحداً يعني ذلك.. غير أن منحى طرح هكذا يعطي هذا الانطباع الفاقع ويفرغ التنمية في علاقتها بالوطن وتقدمه وحصانته من معناها الباهر.. فلا نامت أعين التنمية.. يقظةً لا تهيباً!