سعد

قبل توحيد المملكة، حين كانت الجزيرة نهبا للنزاعات وغارات البلدات على بعضها البعض، يحكى أن رجلا اسمه "سعد" اشتهر في بلدته بمبادرته الشهمة والجسورة وبمسارعته إلى النجدة وتقديم المساعدة.. وذات يوم أغار الأعداء على بلدته وحمي الوطيس وكانت أصوات قومه تتعالى من كل جانب: هنا يا سعد.. هنا يا سعد.. وسعد يكر من جهة إلى أخرى يجندل بسيفه هذا ويطعن برمحه ذاك ويرفس ذلك ويطرح آخر أرضا دون كلل غير أن أصوات قومه لم تكن تكف عن الاستنجاد به: تعال هنا يا سعد.. تكفا يا سعد.. بالله يا سعد.. بسرعة يا سعد.. وفجأة رمى سعد سلاحه وانسحب من الميدان مشمئزا وهو يردد "الله يلعن أبو ديرة ما فيها إلا سعد"!
من المؤكد أن بلدة سعد تلك لن تعدو آنذاك سوى قرية صغيرة جدا ببيوت قليلة بدائية وأن قاطنيها في الأغلب قلة من الناس البسطاء مسحوقة منهكة بالفقر والجهل والعلل يمكن معها تفهم ما حدث.. غير أن سعدا لا يبدو أنه انقرض.. وإنما ترك بعده نسخة منه في كل مكان.. حتى ونحن اليوم في وطن قراه أصبحت مثل مدنه نعيش غمار تنمية موفورة الصحة والرخاء والأمن وتطورا هائلا في العلم والعمل، إلا أنك ستجد سعدا حين تذهب لجهة حكومية أو مؤسسة خاصة أو حتى متجر أو محل للخدمة.. فما تكاد تعلن للموظف الذي تقابله عن رغبتك في إنجاز ما جئت من أجله حتى تجده يلتفت يمنة أو يسرة صائحاً: يا سعد.. تعال هنا لو سمحت (وطبعا قد يكون أي اسم آخر)، وما إن تشغل ذهنك بحفظ الاسم الذي بيده تدبير أمرك حتى تسمع موظفين آخرين من عدة نواح تلعلع أصواتهم يستعجلون مجيء سعد إليهم.. وسعد يلهث بين موظف وآخر.. لهذا المكتب أو ذاك يؤشر هذه الورقة أو يعبئ ذلك النموذج أو يوقع تلك المعاملة أو يضع السعر على الفاتورة أو يدُلك على الموظف المسؤول، الذي غالبا حين تسأله السؤال العتيد بعدما يعطيك ورقك: "طيب.. هالحين وين أروح؟!" وبدلا من أن يرد عليك يفاجئك: بصوته العالي موجها كلامه ناحية سعد: "يعني الرجال كذا خلاص يا سعد"؟!
لا تقتصر ظاهرة سعد المبادر الخدوم الأريحي الشغيل "البطل والضحية" على وجوده في القطاع العام أو القطاع الخاص، في هذه الوزارة أو تلك المنشأة بل نحن نصحبه معنا في أذهاننا كما لو أنه وكيل أعمالنا.. لا نتردد في أن نحيل إليه الأصدقاء والأقارب وكل من يذكر لنا أنه ذاهب لقضاء شأن يخصه هنا أو هناك، حتى ولو للحجز في فندق أو لترتيب السفر في مكتب سياحي، إذ سرعان ما نزوده بالتوصية الشفهية: (أبد.. بس رح لسعد وهو يخدمك)، وقد يضيف بعضنا: (قل له جايك من فلان!!) وطبعاً من المستبعد أن يكون سعد عرف (فلان) إلا أنه سيلهث مباشرة من أجلك .. وهو إذا لم يفعل في الحال فسوف يقول له زميله: (الله يخليك يا سعد .. شف موضوع ها الرجال!!) وهكذا يلبي سعد ما يطلبه منه الزملاء أو من نتبرع نحن ببعث إليه من معارفنا بكامل "الميانة" دون أن تطرف لنا عين!!
تحدث المصيبة حين تذهب للجهة فيقال لك إن هذا الموضوع عند سعد.. أو إن سعدا فقط هو اللي يعرفه.. لكنه غائب أو في اجتماع.. أما المصيبة الأدهى فتحدث عندما تذهب إلى سعد ولم يقل لك: الحقني .. أو تعال معي.. وأدار لك ظهره وهو يقول: ما أدري.. شف الشباب.. هنا عليك أن تعرف أن سعدا قد رمى سلاحه وقرر الانسحاب من الميدان.. فإلى متى ستظل ظاهرة "سعد" سائدة؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي