التوسع في صناعة تكرير النفط مطلب استراتيجي

تعيش المملكة طفرة حقيقية في صناعة تكرير النفط، وهذا الأمر سينعكس إيجابا على إيجاد فرص عمل، إضافة إلى زيادة الدخل الوطني. وسترتفع طاقة المملكة التكريرية في السنوات القليلة القادمة إلى نحو 3.5 مليون يومياً مع القرار الحكيم بإنشاء ثلاث مصافٍ جديدة في الجبيل وجازان وينبع. وفي عام 2011 استهلكت المملكة يومياً نحو 640 ألف برميل ديزل و445 ألف برميل جازولين و250 ألف برميل زيت وقود و66 ألف برميل كيروسين، وبلغ إجمالي المشتقات المستهلكة يومياً نحو 1.5 مليون برميل، وهذا يدل على أن التوسع في صناعة التكرير سيفتح المجال لتصدير كميات كبيرة من المشتقات قد تصل إلى أكثر من 1.5 مليون برميل يومياً.
يجب على صناعة التكرير أن تكيف نفسها لتكون مرنة وقادرة على التعامل مع المتغيرات العالمية حتى تواصل نجاحها. ومثالاً على ذلك انخفاض كميات النفط الخفيف في العالم مقابل ارتفاع كميات النفط الثقيل الغنية بالكبريت وغيره من الشوائب. لذلك؛ فإن المصافي الجيدة هي تلك التي تكون قادرة على التعامل مع هذه الأنواع من النفوط والتي ستكثر نسبتها مع الأيام. وأيضا علينا أن نعي أن الطلب العالمي على المشتقات النفطية متغير وغير ثابت؛ لذلك فإن المرونة مطلب مهم لأي مصفاة. بلغ الطلب العالمي على النفط وبحسب تقارير ''أوبك'' نحو 87 مليون برميل يوميا في عام 2011، وتعد وسائل النقل المختلفة العامل الأهم في هذا الاستهلاك؛ إذ إن نحو 65 في المائة من النفط العالمي يذهب وقودا لوسائل النقل. وستصل هذه النسبة إلى أكثر من 70 في المائة بحلول 2035. ويعتبر الديزل أهم المشتقات، وشهد العالم حديثاً طفرة نوعية بزيادة استهلاك الديزل مقارنة بالجازولين. ومن المتوقع أن يرتفع الاستهلاك العالمي للديزل في عام 2035 إلى 37 مليون برميل، حيث سيصل الاستهلاك العالمي من النفط الخام للفترة نفسها إلى 110 ملايين برميل يومياً، أي أن ثلث الاستهلاك العالمي للنفط سيكون على شكل ديزل. ويعود ازدياد استهلاك الديزل مقارنة بالجازولين بصورة رئيسة إلى كفاءة محركات الديزل واستهلاكها كميات أقل من الوقود لكل كيلو متر مقارنة بمحركات الجازولين. لكن يجب أن ندرك أن التشريعات البيئية فيما يتعلق بوقود الديزل صارمة وهي يجب ألا تزيد نسبة مركبات الكبريت على 15 جزءا بالمليون في أمريكا وأوروبا.
ولا يخفى على الجميع أن المملكة تشهد نمواً كبيراً في عدد السكان، ونمو الناتج الوطني يعد مطلباً أساسيا لأي دولة في العالم. ومع التخطيط السليم من الدولة، فإن تصدير المشتقات البترولية سيكون رافدا من روافد الاقتصاد الوطني، وعلى سبيل المثال يكفي أن نعلم أن صناعة التكرير في الهند تعد من أهم الصناعات الداعمة للهند، ونتمنى أن تظهر المملكة قريباً قوة تكريرية عالمية تستطيع منافسة كل من الهند وسنغافورة على أسواق المشتقات العالمية.
ويمكن القول وبشكل عام، إن ربحية صناعة التكرير تعتمد بشكل رئيس على أمور عدة، أولها سعر الخام (يشكل نحو 60-70 في المائة من تكلفة الإنتاج) ومدى تطور المصفاة وقدرتها على تحويل المشتقات الثقيلة قليلة الثمن إلى ديزل وجازولين وكيروسين عالي الجودة وخالٍ تقريبا من الكبريت، ومدى قوة الطلب العالمي على المشتقات البترولية. لذلك نجد أن ربحية المصافي في أمريكا تراوح بين خمسة وعشرة دولارات للبرميل، فلو أن مصفاة حديثة تكرر يوميا نحو 400 ألف برميل فإن ربحيتها تقدر ما بين مليونين وأربعة ملايين دولار يومياً.
والسؤال الذي يطرح نفسه: أيهما أفضل بيع مليون برميل خام يومياً أم تكريره إلى مشتقات ومن ثم بيعه؟ فمثلا يمكن بيع مليون برميل نفط خام بنحو 100 مليون دولار (على اعتبار أن سعر البرميل 100 دولار) ويمكن أن تكرر هذه الكمية من الخام إلى نحو 250 ألف برميل ديزل (سعر البرميل 135 دولارا) و450 ألف برميل جازولين (130 دولارا للبرميل) و100 ألف برميل كيروسين (135 دولارا للبرميل) و50 ألف برميل سوائل الغازات (135 دولارا للبرميل) و150 ألف برميل زيت وقود ومنتجات أخرى (75 دولارا للبرميل) فيصبح المجموع نحو 124 مليون دولار(هذه أرقام تقريبية للإيضاح) وبعد خصم تكلفة التكرير تصبح الربحية مقاربة لما ذكر آنفاً. وهذا يعني دخلاً إضافيا، إضافة إلى أن تكلفة التكرير أوجدت فرص عمل، لكنه في المقابل يجب استثمار عشرات المليارات من الدولارات لتشييد وعمل وصيانة هذه المصافي، إذاً هو في الأخير قرار ليس من السهل اتخاذه.
ويباع الديزل في دول الاتحاد الأوروبي بنحو خمسة إلى ستة ريالات للتر، وفي اليابان بنحو 5.5 ريال للتر، وفي الصين بنحو أربعة ريالات للتر، وفي كندا وأمريكا وروسيا بنحو ثلاثة إلى أربعة ريالات للتر. أما في الدول المجاورة للمملكة فيباع في الإمارات بأكثر من المملكة بكثير، حيث وصل سعر اللتر نحو 3.7 ريال، وفي الأردن أكثر من ثلاثة ريالات للتر.
وفي الختام.. يبدو جلياً أن صناعة التكرير بدأت في الهجرة من الغرب إلى الشرق؛ لذلك فإن تملك زمام الريادة في هذه الصناعة أمر حكيم، ولا سيما أن المملكة تمتلك أكبر احتياطي للنفط التقليدي في العالم. وقد يأتي يوم تصبح فيه الدول الغربية غير راغبة في شراء بعض النفوط الثقيلة الغنية بالكبريت وتفضل المشتقات الجيدة الصديقة للبيئة عوضا عنها. الأكيد أن التحدي لصناعة التكرير في الدول المصدرة للنفط يكمن في إنتاج وقود بمواصفات تستطيع المنافسة عالمياً وبالقدرة على جلب الاستثمارات الكبيرة؛ لأن تكلفة إنشاء المصافي باهظة. ولن يستطيع العالم ولعقود قادمة التخلي عن وقود وسائل النقل التقليدية، ولن تفلح البدائل باهظة الثمن في التأثير في الوقود التقليدي، حتى تحويل الغاز الطبيعي إلى ديزل يعتبر من أكثر العمليات الصناعية تكلفة؛ ما جعل شركة إكسون موبيل تتراجع عن مشروعها المزمع إقامته في قطر. لكن تستطيع التشريعات العالمية البيئية عمل الكثير من المضايقات لمصدري المشتقات النفطية، لذلك فإن تشييد مصافٍ تحاكي تلك التي في أمريكا واليابان وبذل المال في ذلك هو عين الصواب. وهذا يجعلنا ننظر بعين الأمل إلى صناعة تكرير حديثة ومتطورة تكون سندا ودعما للاقتصاد الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي